جوزف سماحة
تصرّ المعارضة على أن لا خروج من الأزمة الحالية إلا بحصولها، في حكومة اتحاد وطني، على الثلث الضامن، أي ثلث عدد الوزراء «زائد واحد». وبات معروفاً أن الموالاة موافقة على منح الثلث، ولكنها تجادل في هذا «الزائد واحد».
يبدو الأمر، للوهلة الأولى، غريباً. أكُلّ ما نشهده وكلّ ما يهدد المصير الوطني مرتبط بهذا الوزير العتيد؟
يجب الاعتراف بأن من سمات هذه الأزمة أنها خطيرة فعلاً وأن مخرجها، الذي يبدو بسيطاً، هو، في الحقيقة، معقّد جداً. لماذا؟
لنعد إلى العدوان الإسرائيلي على لبنان. لقد انتهى إلى نتيجة يستطيع كل طرف أن يفسّرها لمصلحته. إيهود أولمرت يقول إنه حقق إنجازاً. والمقاومة تؤكد أنها حققت نجاحاً. وتقحم الحكومة اللبنانية نفسها، ناسبةً إلى نفسها الكثير. الحدث كبير ولكن مآله يتيح لكل من شارك فيه أن يقدم قراءة خاصة. ولعل هذه الحصيلة الملتبسة مسؤولة إلى حد ما عن استمرار التوتر الحالي الذي هو، في العمق، محاولة لترجمة الأداء في الحرب إلى مكسب واضح يحسم، سياسياً، في أمر المواجهة العسكرية.
عند اندلاع الأزمة السياسية حصل خطأ ما. لقد ارتفع شعار «الثلث زائد واحد» الذي يمنع أي جدل لاحق في النتيجة. بتنا أمام معادلة حسابية بسيطة جداً: تحصل المعارضة على «الزائد واحد» فتكون غالبة، لا تحصل عليه فتكون مغلوبة. لا مجال لأي التباس. لا مجال لأي نقاش. لا قدرة لأي مراقب على تقويم حمّال للأوجه. لو أن المعارضة طالبت بالمناصفة، مثلاً، لكان أمكنها التراجع نحو «الثلث زائد واحد» بما يوحي أنها تنازلت وبما يسلّح الموالاة بحجة تتيح لها الزعم أنها لم تلبّ مطالب خصومها كاملة.
لم يحصل ذلك لأن المعارضة لم تعرف أن تناور فنشأ وضع صعب لأنه، بالضبط، وضع يوفّر أداة قياس دقيقة جداً لمآل المواجهة ويجعل التسوية صعبة. لم يكن غريباً، والحال هذه، أن ينتقل البحث في المخارج إلى أن يصبح بحثاً في هوية هذا «الزائد واحد» وفي اختراع طبيعة خاصة له، أي في استكشاف إمكان أن يكون موضع التقاء، ولو شكلياً، بين الموالاة والمعارضة بحيث يمكن للمساومة أن ترى النور ويمكن لمن يعتبر نفسه خاسراً أن يتظاهر بغير ذلك.
ترافقت قضية المحكمة الخاصة مع مشكلة الحكومة. دخلت الأكثرية في سباق مع الوقت غير مفهوم. كرّرت ما سبق لها القيام به فتكرّر رد الفعل. ومع أن الموالاة لم تكن تفعل سوى لحس المبرد، فإنها لم تتردد وخاصة بعدما جرى إسقاط مبهم لعرض يقضي بإيجاد تزامن ما بين حكومة الوحدة والمحكمة الخاصة. ويتّضح، اليوم، برغم كل ما جرى، وبشهادة عمرو موسى أمس، أن لا مفرّ من هذا التزامن الذي بات يفترض عودة إلى نقطة سابقة بحيث يدرس نظام المحكمة جدياً قبل الموافقة عليه.
الواضح أن همّ التزامن حَكَمَ مهمة عمرو موسى. إلا أن التزامن الآخر الذي لم تجد المبادرة العربية حلاً نظرياً له هو ذلك الخاص بالانتخابات النيابية أولاً، أو الانتخابات الرئاسية أولاً.
نسجل في هذا المجال أن القوى السياسية كلها باتت ميّالة إلى تأييد الفكرة القائلة بضرورة إجراء انتخابات رئاسية ونيابية. لقد عبّر كل طرف عن هذا الموقف مباشرة أو بواسطة تأييد ثوابت المطارنة الموارنة.
البيان الماروني غامض في هذا الشأن. يمكن لقراءة حرفية له أن تستنتج أنه يضع الانتخابات النيابية المسبقة، زمنياً، قبل الانتخابات الرئاسية المبكرة. غير أن المشكلة في هذه القراءة أن واضعي البيان اعتمدوا التباساً مقصوداً وهم متمنّعون عن قول رأي فصل. ولقد قاد ذلك إلى جعل البيان، مثل العلم اللبناني، ومثل شعارات الحرية والسيادة والاستقلال، موضع إجماع يحصل فيه، وعليه، الاختلاف. وإذا حصل للمواجهة الحالية أن تصاعدت، وإذا حصل للأوضاع أن تدهورت، فسيقول قائل، بعد فترة، إن اللبنانيين إنما تنازعوا على الترتيب المثالي لبنود واردة في وثيقة كانت محط إجماع بينهم!
تريد الموالاة تقديم الانتخابات الرئاسية. حجّتها في ذلك أن التمديد هو أصل البلاء. ولكن دافعها هو أنها أكثرية نيابية وأن الظرف يتيح لها وضع اليد على الموقع.
تريد المعارضة تقديم الانتخابات النيابية. حجّتها أن الباقي من ولاية إميل لحود ليس مديداً، وأن إعادة تأسيس السلطة تبدأ من المؤسسة الأم، وأن هذه هي الصيغة الوحيدة التي يتيحها النظام اللبناني للاحتكام إلى الشعب.
الواضح أن المعارضة تملك في هذا المجال أرجحية أخلاقية. ولعلّ قراءة متأنية للبيان الماروني تكشف الشكوى من قانون الانتخاب الحالي بما يغلّب الدعوة إلى ترتيب للتطورات بحيث نبدأ بقانون عادل للانتخاب ثم نجري انتخابات نيابية فرئاسية.
يمكن ابتداع حل لمشكلة التزامن بين الحكومة والمحكمة. ولكن لا حلّ للتزامن بين العمليتين الانتخابيتين المشار إليهما. لا حلّ إلا إذا أعملنا الخيال.
الانقسام اللبناني شامل. هناك معسكران مختلطان طائفياً ومذهبياً. هناك تياران عريضان يؤطّران الحياة السياسية ولو أن كلاً منهما يتضمن تمايزات. هذه فرصة. إنها فرصة من أجل إجراء تعديل دستوري لمرّة واحدة واستثنائية فعلاً. تعديل يقضي بأن يتم في اليوم نفسه إجراء انتخابات نيابية في كل لبنان باعتباره دائرة واحدة وعلى قاعدة النسبية على أن يتم بالتوازي والتزامن اختيار رئيس من الشعب بالاقتراع العام.
يمكن وضع الضوابط كلها لهذه العملية المزدوجة. ويمكن، لا بل يجب، مسبقاً الحصول على ضمانات كافية باحترام كلمة الأكثرية اللبنانية متى قالت هذه الأكثرية كلمتها.