أنسي الحاج
البركان شاهد في الطبيعة يقول: أنا الفوضى كنتُ في البدء.
في البدء كان الغَمْر المغمور بالغمر.
ورُويَ أن روح اللّه كان يرفرف فوق الغمر.
لماذا؟
كنسرٍ يُحوّم فوق أرض الفريسة، أم كباحثٍ يَدْرس مادته ليعرف كيف يُقْدِم؟
نَزْعتان تتعايشان: واحدة إلى الخروج من أحشاء الفوضى وأخرى إلى الارتماء والولوغ فيها مجدّداً.
واحدة إلى الخَلْق وواحدة إلى الأصل.
هنا، الأصول هي الموت، والموت مقبول بلا رهبة. أما الخَلْق فمخالفة، اغتصاب.
ألا يمكن التوفيق بين الخَلْق والأصل، بين العقل والغريزة؟
بين العَبَث والانبعاث؟

الشعوب تمرّ بمراحل يستميلها فيها الانتحار، كما تمرّ بمراحل يشتدّ فيها إغراء الحياة ومراكمة الحياة. مجموعات اللبنانيين ليست مختلفة عن سواها من الشعوب. وكما لدى كل شعب فئات تبدو في مرحلة ما أشدّ ميلاً إلى الحياة أو الانتحار تبعاً لظروفها التاريخيّة والاجتماعية والسياسيّة، كذلك لدى اللبنانيين. كلّ مكوّن من مكوّنات الكيان اللبناني عرف هذا وذاك من النزعات الطبيعيّة، وانعكست تجربته على سائر الأطراف. اليوم تبلغ التجربة الشيعيّة إحدى ذراها في صعود النجم ومخاض صعوده، وقَبْلَها كانت التجربة المسيحيّة والسنيّة والدرزيّة. كذلك التجارب العلمانيّة، على قلّتها.
ولا ضير. بل بالعكس. تعيد الحيويّة الشيعيّة الأمل إلى التركيبة اللبنانيّة في قوّة دَفْع جديدة، تمتدّ من الأفق الثقافي إلى الأفق الاقتصادي مروراً بالسياسي، وعلى سائر الأطراف في لبنان تَبنّيها والرهان عليها لا التحسّس منها، مهما بلغت التباينات. التضايق من شبح إيراني هنا وتوظيف سوري هناك يجب أن يحفزنا على بذل المزيد لمساعدة «الشارع الشيعي» على التخلّص من الفائض الإيراني والفائض السوري. كما سبق لسائر الشركاء أن تخلّصوا هذا من الفائض الفرنسي وذاك من الفائض العربي وقبله العثماني. والحساسيات بل وحتّى الأخطاء الأكيدة يجب أن لا تحجب حقيقة كون الفريق الشيعي اللبناني شريكاً لا في السلطة فحسب ـــ وهذا ما لا فضل لأحد فيه أو عليه ـــ بل في القوّة اللبنانيّة. هذه القوّة التي كلّما شاخت أو وَهَنَتْ لدى فريق نهض بها فريق آخر. المجتمعات الحيّة تفيد من فرص ثمينة كهذه لتطعّم مُتْعَبَها بنشيطها وقديمها بجديدها ولا تُحجم انغلاقاً وخوفاً. لننظر إلى المجتمعات الأوروبيّة. وإلى الولايات المتحدة وإلى روسيا. المجتمعات التي تتخلّف هي التي ترفض آمالها.

نزعتان تتعايشان، تتواجهان: الانفجار والانصهار. تحتاج الهيئة الاجتماعيّة والسياسيّة اللبنانيّة إلى إعادة صياغة لا في ضوء ميزان القوى الإقليمي والمصالح الدُوَليّة بل في ضوء ميزان القوى الداخلي. الداخل ينتج ذاته باستمرار في الشعوب الحيّة، ونحن منها، رغم تقادم الدم وعتْق الجذور. الصعود الشيعي ليس ابن اليوم. محسوب من زمان. مما قبل 1975 بزمان. ولم يكن موسى الصدر ظاهرة عارضة بل ثمرة يانعة. لنخرج من الإطار السياسي نجد الصعود الشيعي في الثقافة، مثلاً، أكبر. ثمّة في العقود الأخيرة أكثرية بارزة من الأدباء الشيعة (تسمية «شيعة» محض دلالة اجتماعية، بلا أي مضمون ديني). إبّان نهضة ما بين الحربين كانت المواهب الشيعيّة الأدبيّة اللامعة معدودة، يكاد لا يقفز منها أحد إلى الواجهة. الآن أصبح ذلك وراءنا. حتّى تسمية «شعراء الجنوب» اندثرت كما اندثرت قبلها تسمية «شعراء جبل عامل». وحسناً كان اندثارهما، فما في تسميات من هذا النوع غير التهميش والعَزْل. اليوم، يحتلّ الأدباء الشيعة (وبعضهم ملحدون، وهذه مدعاة أخرى للتفاؤل) أماكن صدارة عزيزة في كتاب الأدب والفكر اللبناني. وفي الفنّ والصحافة. فضلاً عن التعليم والعلوم والمال والأعمال. دَفْق الحيويّة الشيعيّة هذا مطبوع بمعاناة عميقة يستحيل معها أن تضيع معالمه المميّزة كما يستحيل تذويبه في بحر مذهبي عمومي يلغي فرادته. لا نقولها دفاعاً عن «عنصريّة لبنانية» بل احتراماً للروح الإنسانيّة في الخَلْق. ما من خَلْق جيّد إلاّ ونفحتُه إنسانيّة وآفاقه إنسانيّة وخطابه إنساني. حتّى الفولكلور الصغير اللطيف الذي يوحي أنه محدود بإطاره العرقي والجغرافي، وهو ليس في الحقيقة كذلك.
لا أحد يختار انتماءه الموروث. كلمة شيعي هنا، تكراراً، ذات دلالة اجتماعية شاملة وليست دينيّة أو مذهبيّة. كأن تقول يمين ويسار، شمال وجنوب. علماً بأن هذه الدلالة بدورها تَبْهُت حتى التلاشي عند البعض، ولا سيما الذين تمرّدوا على انتمائهم وأوغلوا في نقد الذات. إن لنا فيهم قدوة. وشجاعتهم (فضلاً عن مواهبهم وعطاءاتهم) تتخذ هذه الأيّام، تحديداً، شكل البطولة. وهامش الحريّة في سجننا العربي الكبير يأخذ بهم روحاً. روحاً وجسداً. ويجدّد لبنان سمعته كمختبر للتمرّد.

أخجلُ من استعمال تصنيفات طائفيّة ومذهبيّة. أعتذر من القرّاء والأصدقاء. لعلّها أول مرّة في حياتي. دفاعي هو الرغبة في إظهار حقائق تُناقض الطائفيّة والمذهبيّة وتُصحّح النظرة. ولا بد، في هذا السبيل، من المرور بألفاظ ناتئة، معيبة، أملاً بالنفاذ إلى الفضاء الرحب المعافى.
الغاية من كلّ هذا قَلْب الخشية إلى صفاء والتوجّس إلى ترحاب. غربلة عواصف الفرقة لتغدو رياح إبحار في محيط واحد، أو على الأقل في محيطات حاملة للرزق. ذات يوم سيكتشف أعداء اليوم لا في لبنان وحده بل في كل مكان أنّهم كانوا جميعهم أدوات في يد واحدة تستعملهم. أحرى أن نكتشف نحن اللبنانيين، اليوم قبل الغد، مثل هذه البديهة.
لا نريد أن نصدّق أن دعوات مثل هذه ستلقى المصير الذي لقيته مثيلاتها عشيّة اندلاع حرب 1975. لا نريد أن نستسلم للتشخيص الذي يزعم أننا أغبياء. في آخر الأمر، إذا كان لا بدّ من شرّ، فلماذا لا نعتمد التباغض على الناشف!؟ تباغض مدني سلمي!؟ تباغض بلا رصاص!؟ التقاتل الدموي صاخب ويُنفّس الزخم. لنتفاهم على التباغض إذا لم نستطع أن نتحابّ. كونفديرالية تباغض. صيغة تعايش تباغض. البغض ينعش الدماغ ويجدّد الخلايا. يصنع أعمالاً عجيبة. يطيل العمر... وستكون فتنة من نوع جديد ننضمّ به إلى العولمة. وقد تنقلنا العولمة في ما بعد (قد، فقط) من مرحلة التباغض إلى مرحلة تبادل اللامبالاة، كالمكنات. ربّما نذوق حينها بعض الهدوء.

... طبعاً السطور السابقة هي من باب العبث. املاها القهر. كمعظم ما يصيب الناس هذه الأيّام. إغراء التدمُّر قويّ. الهجرة ليست الباب الوحيد للإفلات. وليست متاحة لمن أراد. المخارج عديدة ومن أحلاها الهذيان.
على الأقل.
إغراء التدمّر قويّ. المنعطف هو ذاته للتهوّر وللسلامة. لا نحتاج إلى التهوّر للإحساس بالتشويق. السلامة في مجتمع مركّب ومفتوح كمجتمعنا زاخرة بعناصر التشويق. أوّلها الشعور شبه الدائم بإمكان السقوط...