حسن عليق
لا يبدو أن أحداً يريد إثارة قضية المخطوفين والمفقودين خلال الحرب الأهلية، وكأن العدل لا ينطبق على هؤلاء. ففي الوقت الذي يرتفع فيه شعار المطالبة بالحقيقة، مترافقاً مع شعار «لن ننسى»، يُطلَب النسيان و«طي الصفحة» لأكثر من 17 ألف مواطن. ففي لبنان جرائم ضد الإنسانية يراد نسيانها، ومقابر جماعية يخشى «حفاروها» التطرق إليها

أمهات لمخطوفين في مؤتمر صحافي للجنة أهالي المخطوفين والمفقودين. تحمل بعضهن صور الأبناء. البعض الآخر، أتين هذه المرة بدونها. لم يتعبن من حملها، ولم يفقدن الأمل. لكن يبدو أنهن لم يعدن يحتملن النظر إلى صور من خرجوا يوماً ولم يعودوا. سنوات، ولبعضهن عقود، يقضينها بانتظار أن يعود الابن الذي رحل من دون أن يودع، أن يلثم يداً، أو يحدد وقتاً للرجوع. تقف إحداهن، وقبل الكلام تنحدر الدموع. تستجمع أنفاسها لتقول: «تهجرنا من المسلخ إلى الأوزاعي. بعد سبعة أيام، خرج ابني ولم يعد». تتحدث عن أمل ما زال لديها، ثم تقول: «ألا يموت الإنسان في السجن؟ ألا يموت بعد أكثر من عشرين عاماً؟» تعود للبكاء وتغادر. إنها واحدة من أمهات أكثر من 17 ألف لبناني فقدوا خلال الحرب الأهلية بحسب التقديرات. سجل ذوو 2312 منهم أسماءهم خلال العامين 2000 و2001، في اللجنة التي شكلتها الحكومة لمتابعة قضية المفقودين والمخطوفين. لا أحد يعلم أين أصبحت اللجنة اليوم. فأكثر السياسيين يتحدثون عن «طي صفحة الماضي». وعندما يفتحون «الصفحة»، ينتقون منها محطات تدين خصومهم. لكنهم، بالعموم، يعلنون نيتهم «طي الصفحة». وكأن الحرب، التي خاضها كثيرون منهم، بما فيها من ويلات وقتلى ومفقودين، كانت كمباراة رياضية، أخطأ الحكم فيها باحتساب أهداف، ولا بد من «طي الصفحة»، وأخذ الموضوع بـ«روح رياضية»...
عُقد المؤتمر ظهر أمس في نقابة الصحافة. تحدّثت رئيسة اللجنة وداد حلواني، وشنت هجوماً على من سمّتهم «أمراء الحرب في فريق الأكثرية»، والذين يعبرون عن «دعمهم اللامحدود لإنشاء المحكمة الدولية»، مشيرة إلى أن هذا الدعم «المشجع» مستغرب في الوقت نفسه، لأنه «يصدر عن أمراء حرب ما برحوا يتنصلون من مسؤولياتهم». ورأت حلواني أن «عبارة الحقيقة والعدالة أصبح لها بالنسبة إلى الطبقة السياسية الحاكمة معنيان: الأول هو عدالة القادة وكبار القوم، والثاني، نتبناه، ومفاده أن العدالة التي نطالب بها هي عدالة الناس العاديين في وجه كل مستقو ظالم، وهي عدالة تزداد ضرورة وإلحاحاً كلما قل شأن المظلوم وزادت قوة الظالم». ورأت حلواني أن هذه «الازدواجية هي التي تجيز لأحد أمراء الحرب أن يعلن نياته في المثابرة على طلب المحكمة والحقيقة والعدالة في قضايا اغتيال الشخصيات، فيما هو ما زال يفاخر بماضيه، من دون أي مراجعة ذاتية أو اعتذار، غير عابئ بآلاف ملفات المفقودين والمخطوفين الذين يرجح اختفاء معظمهم في سجون ميليشياته». وأضافت حلواني أن «لسان حال كل الأكثرية أن عدالة المشاهير مطلوبة مهما كان الثمن، بخلاف الناس العاديين الذين يجدر طمس قضاياهم ونسيانهم في كل حال، أياً كانت فظاعة الجرم المرتكب ضدهم، حتى لو بلغ حد المقبرة الجماعية». كما نددت بمن سمّتهم «ممثلي العالم المتحضر في لبنان» ممن قالت إنهم «يراقبون ويعرفون خير معرفة كيف يعامل أهل المفقودين في بلدنا». وبالرغم من ذلك، فإنهم يلتقون «أمراء الحرب، من دون أن يسألوهم أي سؤال أو يقترحوا عليهم أي مبادرة تجاه الجرائم التي ارتكبوها». وتساءلت عما إذا كان «مفهوم العدالة بالنسبة إلى العالم المتحضر هو أيضاً «عدالة الشخصيات»، في حين «أن صلب واجباته يمكن في التعاطف أولاً مع ضحايا الجرائم ضد الإنسانية (...) وفي كشف المقابر الجماعية، وفقاً لما ينص عليه نظام المحكمة الجنائية الدولية».
وختمت حلواني كلمتها بالقول: «لا يجوز أن تكون العدالة طبقية، طبقوا العدالة على جميع الناس دون تمييز، لنصل معاً إلى السلم الراسخ والأكيد، إلى وطن يتسع لجميع أبنائه. بالصوت المدوي نقول لا للعودة إلى الحرب التي يتراءى شبحها في هذه الأيام، لا لمزيد من الضحايا، لا لمزيد من المقابر الجماعية». ومثل نقيب الصحافة محمد البعلبكي الصحافي فؤاد الحركة، معرباً عن دعمه وتأييده للجنة، مشيراً إلى أن قضية «المخطوفين والمفقودين يجب أن تكون من أهم القضايا التي يجب أن تتمحور حولها كل اللقاءات والاجتماعات والاحتجاجات.»
بعد انتهاء المؤتمر، طرح عدد من الأهالي الأسئلة على حلواني التي أكدت على ضرورة تحمل الدولة، دون الأطراف السياسية، لمسؤولياتها. ثم دار نقاش على «الطريقة اللبنانية»، انقسم الحضور في جزء منه بين مؤيد لمتابعة ملف المفقودين مع «الدولة»، مشيراً إلى أن الأطراف السياسية لن تحل المشكلة، ومدافع عن «الدولة»، مشيراً إلى أنها لن تستطيع حسم الموضوع «بسبب التعطيل الذي تعانيه». انتهى النقاش «حبياً». وقبل الرحيل، تسأل النسوة عن رفيقة لهن لم تحضر هذه المرة، بل أرسلت ابنتها نيابة عنها. يرحلن ولا يرافقهن إلا الحزن. يخرج الصحافيون والمشاركون. يتساءل أحدهم: «هل نملك لهن غير الصمت المشابه للمشاركة في الجريمة؟».