نقولا ناصيف
نتائج المسعى الذي قام به الأمين العام للجامعة العربية عمرو موسى في بيروت كانت قمحة بالنسبة إليه، وشعيرة بالنسبة إلى الغالبية الحاكمة والمعارضة على السواء. وهذه حال البندين المتلازمين في التسوية التي اقترحها موسى: حكومة الوحدة الوطنية قمحة، والمحكمة الدولية في اغتيال الرئيس رفيق الحريري شعيرة. فالفريقان المتنازعان قدّما في الظاهر تنازلاً جوهرياً في تأليف حكومة وحدة وطنية تبعاً لتقويم كل منهما لما قدّم. وتصلّبا حيال مشروع المحكمة الدولية. وبذلك يكونان ـــ من حيث أرادا ـــ قد نسفا التسوية برمتها، وحمّل واحدهما الآخر مسؤولية إخفاق مهمة الأمين العام للجامعة العربية، وأبقيا الوضع على حاله حتى إشعار آخر.
واستناداً إلى المعطيات التي قارب بها طرفا النزاع وساطة موسى، لم يُبديا أساساً حماسة جدية للتوصّل إلى حلّ يقود كلاً منهما إلى تقديم تنازل جوهري، ولم يكن في وسعهما الظهور مظهر المعرقل. فكان أن انتهت مهمة موسى مخيّبة وفق النتائج الآتية:
1 ــــــ وافقت الغالبية والمعارضة على تأليف حكومة وحدة وطنية، وبدا كل منهما مراهناً على أن ندّه سيضع العراقيل في طريق التسوية: تصرّف رئيس الحكومة فؤاد السنيورة والغالبية كأنهما قدّما تنازلاً كبيراً هو آخر ما يمكن أن يقدّماه، أي تأليف حكومة وحدة وطنية لا ثلثان فيها لقوى 14 آذار، وتالياً تكون هذه القوى، في سبيل دعم تسوية متكافئة تجنّب البلاد صراعاً مذهبياً وفوضى سياسية، قد تخلّت عن المصدر القوي لسيطرتها على الحكومة ولسلطتها في الحكم، في مقابل ألا يحصل الفريق الآخر على الثلث زائد واحداً لمنعه هو الآخر من السيطرة على الحكومة. أما المعارضة فتصرّفت كأنها قدّمت بدورها تنازلاً كبيراً هو آخر ما يمكن أن تقدّمه بالتخلي عن مطلب الثلث زائد واحداً الذي اقترن بتحريك الشارع كهدف رئيسي لإعادة بناء التوازن السياسي الداخلي، وبالتخلي عن الإصرار على تنحية السنيورة والمجيء برئيس آخر للحكومة وعن إجراء انتخابات نيابية مبكرة على نحو ما نادى أقطاب معارضون.
وهكذا تكون صيغة حكومة وحدة وطنية ثلاثينية من 19 + 10 + 1 (هو الوزير الذي سيكون جوكر الحكومة) حلاً مرضياً يعطي المعارضة ما لم يأخذه من الغالبية.
2 ـــ تبدو المحكمة الدولية عقدة الاشتباك السياسي. فبينما تمسّكت الغالبية بإقرار المشروع في مجلس النواب في ظل الحكومة الحالية بعد وضع اللجنة السداسية ملاحظاتها، كانت للمعارضة وجهتا نظر ،للرئيس نبيه بري و«حزب الله» تتطابقان في المحتوى:
فرئيس المجلس، بحسب ما أبلغه إلى موسى، نبّه السنيورة إلى أن أي إحالة لمشروع المحكمة الدولية على مجلس النواب من دون اقترانه بتوقيع رئيس الجمهورية صاحب الصلاحية الدستورية بذلك، لن يكتفي بري بردّها فحسب لمخالفتها الأصول الدستورية، بل سيُوصد الأبواب دون أي حوار بينه وبين رئيس الحكومة والغالبية، لأن إحالة غير دستورية كهذه من شأنها مضاعفة الاحتقان والتصعيد وتشجيع المواجهة التي يريد رئيس المجلس اجتنابها. فضلاً عن تمسّكه بموقفه القائل بلا دستورية الحكومة الحالية.
ويبدو أن السنيورة تدارك الأمر في الجلسة الأخيرة لمجلس الوزراء الثلثاء الفائت (12 كانون الأول). ومع أن المجلس وافق بإجماع الوزراء الحاضرين على التمسك بمشروع المحكمة الدولية وردّ رد رئيس الجمهورية، ووافق أيضاً على إحالة المشروع على مجلس النواب، تفادى السنيورة، عملاً بنصيحة بري، إحالة مشروع المحكمة الدولية على مجلس النواب خلافاً للأصول الدستورية (أي من دون توقيع الرئيس إميل لحود) ـــــ وهو لا يملك في أي حال منفرداً صلاحية إحالة كهذه ــــ بأن عهد إلى الأمانة العامة لمجلس الوزراء توجيه كتاب إلى الأمانة العامة لرئاسة الجمهورية يتضمن إحالة المشروع على رئيس الجمهورية بعد إصرار مجلس الوزراء عليه، وذلك لوضع الكرة في ملعب لحود وحمله على وضع مرسوم إحالة به على مجلس النواب. وإذا امتنع رئيس الجمهورية للأسباب التي يتسلّح بها، وهي اعتباره الحكومة فاقدة الصفة الدستورية، ينتظر السنيورة انقضاء 15 يوماً ثم يحيل المشروع على المجلس. وبذلك تكون النتيجة نفسها: سيردّ بري مرسوم الإحالة لخلوه من توقيع لحود تفادياً لتكريس سابقة دستورية خطيرة تنتقص من صلاحيات رئيس الجمهورية، ناهيك بأن خطوة كهذه تمثّل في ذاتها مخالفة دستورية.
والواضح أن الآلية الدستورية هذه تفضي إلى تجميد مشروع المحكمة الدولية وتعطيل إقراره في مجلس النواب، مع انقضاء العقد العادي الثاني في 31 من هذا الشهر، من غير أن يكون مؤكداً أن لحود سيستجيب لعريضة نيابية بفتح عقد استثنائي للمجلس في كانون الثاني المقبل للسبب نفسه، وهو أن توقيع رئيس الحكومة العريضة سيكون مشوباً بعيب لادستوريته.
أما «حزب الله» الذي يلاقي بري، سياسياً، في موقفه، فيرى إقرار المحكمة الدولية في مرحلة تالية لتأليف حكومة وحدة وطنية، بحيث يصار إلى وضع الملاحظات على مشروع المحكمة الدولية، ويُحال من ثم على رئيس الجمهورية لأخذ موافقته عليه قبل عرضه مرة جديدة على مجلس الوزراء وإقراره، وإحالته بعد ذلك على مجلس النواب لإقراره بلا عقبات، بعد أن يكون المشروع قد مرّ في مطهر مجلس وزراء حكومة الوحدة الوطنية. ويعكس هذا الموقف حذر الحزب من مناورة الغالبية التي تريد إحالة الملاحظات الجديدة على مجلس النواب، ثم تنجح في إقراره بفضل سيطرتها على نصاب الغالبية المطلقة فيه، وتضع المعارضة أمام الأمر الواقع الذي هو الثمن الفعلي لموافقة الغالبية على تأليف حكومة جديدة تخسر فيها ثلثي المقاعد. اذا كانت فعلاً جادةً في التخلي عن ذلك.
وقد يكون هذا السبب هو الذي يحمل الحزب على ربط موافقته على مشروع المحكمة الدولية بشرطين يرفضهما السنيورة والغالبية: موافقة لحود على المشروع وتوقيعه مرسوم إحالته بعد تقدير ملاحظاته، وموافقة جديدة لمجلس وزراء حكومة الوحدة الوطنية على المشروع أيضاً. علماً أن رئيس الجمهورية لن يمهر بتوقيعه مشروعاً أو مرسوماً تصدره حكومة السنيورة في ظل واقعها الراهن المفرغ من وزراء الطائفة الشيعية.