جان عزيز
يروي أعضاء تجمّع سياسي نخبوي، أنهم في أحد حواراتهم مع ركن مسيحي من «فريق 14 آذار»، فاجأهم بعرض مقارن مطوّل، بين القوة السياسية السنّية الأساسية في لبنان اليوم، وبين نظيرتها الشيعية، ليبرر حسن خياره السياسي في «التحالف الاستراتيجي» مع الأولى على حساب الثانية.
وينقل الأعضاء أنفسهم أن الركن المقصود ختم مطالعته بالقول: «في النهاية، حين أنظر إلى سعد الدين الحريري، أرى أنه يشبهني في كل شيء، حتى في بزّته وربطة عنقه. بينما حين أنظر الى الآخرين، فلا شيء فيهم شبيهاً بي».
ذهل أعضاء التجمع بتلك المقارنة، وتوقفوا طويلاً عند مغالطتيها في المضمون والشكل. فلجهة الجوهر، معروف أن المسيحيين بنوا نضالهم منذ عقود على خطاب الاختلاف والحق فيه، وهو ما كرّسوه في ثابتة «التعددية» التي باتت العمود الفقري لكل مشاريعهم السياسية. وإذا كان المطلوب اليوم هو «التماثل» على طريقة «الانصهار» في ربطة العنق، فأيّ مبرر يبقى لكل القضية المسيحية في لبنان؟
أما لجهة الشكل، فمن قال إن الحكم على حقيقة المشاريع والأفكار والعقائد والاستراتيجيات تختصره صورة الظاهر تلك؟
وانتظر أعضاء التجمع المذكور أشهراً طويلة، حتى اكتمل «تظهير» الصورة الحقيقية، أو الوجه الآخر لها على الأقل، في الأسبوعين الماضيين. ففي الأزمات وحدها تطفو الحقائق على السطح، وينجلي صلب النيات والشخصيات. فهل يمكن القول إنه بين تظاهرات «شرب الدم» دعماً لحكومة السرايا، وبين عودة «الفرّاعة» الشهيرة أداة قتل جنبلاطية في رويسة البلوط، ظهر وجه آخر لبث فترة تحت أقنعة 14 آذار؟
يسارع ركن معارض إلى رفض هذا السؤال، إذا كان المقصود منه إسقاط منطق التعميم، على فريق سياسي كامل. فالأكيد أن بين تحالف السلطة شخصيات عدة عرفت برفضها للعنف وبمواجهته سلماً في أشد ظروف الحرب اللبنانية الماضية. وبين هؤلاء من تنكّب أخطاراً كبرى بلجوئه الى النضال السلمي اللاعنفي لتحقيق تطلعاته واقتناعاته. كما أن بين تحالف السلطة من اضطرّ الى خوض الحروب الماضية، لكنه خرج منها مستخلصاً دروسها ومتّعظاً بعبرها ومتعلماً من أمثولاتها.
هل يكفي ذلك للاطمئنان الى عملية تجميل الصورة الحاصلة لدى 14 آذار؟ يجيب الركن المعارض نفسه بالنفي، مستنداً بالأدلة والوقائع الى الكثير، وأبرزه الآتي:
1 ـ لماذا الحملة الإعلانية الضخمة التي أطلقها تيار السلطة الأساسية، والتي قدّر الخبراء كلفتها حتى اليوم بنحو مليون دولار أميركي؟ ولماذا الإعداد لحملات مماثلة لاحقة بدأ تسجيل أشرطتها وأفلامها الدعائية منذ اليوم، لتكون جاهزة الشهر المقبل، بهدف الترويج لوجه سلمي للسلطة؟ فهل ثمة ما يضمره هؤلاء في الحقيقة ويسعون الى تمويهه في الدعاية؟
2 ـ لماذا لجوء تيار السلطة الأساسي نفسه الى جمعيات وهمية، تشكل غطاءً له، وتنظم حملات باسمها تحاول تصوير الأزمة الراهنة على أنها صراع طائفي بحت، في ما يبدو تحويراً لحقيقة المأزق القائم؟ علماً بأن الموازنات المرصودة لهذه الهيئات ـ الواجهة، تؤكد هوية الجهة القادرة القائمة خلفها؟
3 ـ لماذا طلب تيار السلطة نفسها تحضير حملة دعائية عن الانتخابات النيابية، بدأ الإعداد لها في شركات إعلانية خاصة، على أن تكون جاهزة للإطلاق في الأشهر المقبلة؟
4 ـ لماذا ترافق هذا الطلب مع قيام جهة أمنية تابعة عضوياً لتيار السلطة الأساسي، بتقسيم الجغرافيا اللبنانية كاملة، إلى 20 قطاعاً أمنياً، وتعيين مسؤول أمني على كل منها، مطلق الصلاحيات لدى تراتبية هذه الجهة، وتابع مباشرة الى رأس هرمها، في شكل مخالف للأصول والقوانين والتراتبيات الإدارية؟
5 ـ لماذا لزّمت مكاتب «النفقات» السياسية التابعة لتيار السلطة نفسه، في مناطق تعبئته الأساسية، الى أشخاص عرفوا طوال فترة الوصاية السورية، بكونهم أزلام النظام الأمني اللبناني ــ السوري المشترك السابق، وبقدرتهم على مختلف أنواع الارتكابات والأذى والمخالفات، ممن أصبحت أسماؤهم وأرقام موازناتهم معروفة من قبل مواطني مناطقهم، وممن شاركوا في «غزوات» مشهودة، بينها غزوة الأشرفية في 5 شباط الماضي، وأطلق سراحهم بواسطة النفوذ السلطوي نفسه؟
أسئلة كثيرة باتت موضع دراية وعناية لدى القوى المعارضة، كما لدى جهات أخرى رسمية وروحية، أصبحت لا تتوانى عن الإعراب عن قلقها مما يحضّر ويعدّ ميدانياً، تحت لبوس السيادة والحقيقة وخلف ربطات الأعناق.
حتى أن مرجعاً روحياً قال صراحة قبل أيام، إنه لا يمكن تحويل اتفاق المحكمة الدولية إلى اتفاق قاهرة آخر، يفرض على النواب اللبنانيين إقراره بالقوة ومن دون اطلاع، لنكتشف بعد أعوام أن الغرض الأساسي من مضمونه وإمراره هو تفجير البلاد، ضماناً لسيطرة طرف واحد على كامل السلطات في لبنان، وخصوصاً في ظل أوضاع إقليمية تربط هذا الطرف بأحد أكثر الأنظمة ظلامية في العالم، وفي ظل مواجهة دوغماتية شاملة بينه وبين أخصامه، لا قدرة للبنان على احتمالها، ولو مقنّعة بربطة عنق.