strong>سعيد الولي
بعد أدائها موزار وبتهوفن، انطلقت عازفة البيانو تاتانيا بريماك خوري في رحلة جديدة مع «دراسات» شوبان لنكتشف معها فنون الموسيقى وأسرار البيانو. فقد أضافت تاتيانا أداءات جديدة لهذه المؤلفات «القديمة» التي لم تفقد «شبابها»، والتي شكّلت بطاقة مرور لكلّ ساع لقلب بيانو.
تميّز أسلوب تاتيانا في هذا الأداء الجديد بتأخّر متعمّد أو قل ببطء مقصود لدى الجمل التي يعتقد الكثيرون أنها يجب أن تؤدّى على عجل لإثبات البراعة. غير أن الغاية من هذا الإبطاء هي دعوة للتأمّل. إنها الوقفة لتحية كل نفس وكل آه خارجة من صدر طحنته التجربة (احتلّ الروس بلده الأصلي بولونيا من قبل) وأضناه مرض السّل.
تشكّل كل هذه «الدراسات» معجزات صغيرة تقنياً ونغمياً أضيف إليها أداء فريد يستوجب التحليل. بدأت «الدراسة» الثالثة، والتي يدعوها البعض «tristesse»، بطيئة متهادية بحزن مشوب بالغضب الذي لا يلبث أن ينفجر ليعود التهادي وتسكت النوتات وكأنه النفس الأخير يلفظه بطل ملحمي. والجدير ذكره أن شوبان صرخ مرة حين سمع عازفاً من تلاميذه يؤديها: «آخ يا بلدي».
أما «الدراسة» رقم 12 فإنها الأشهر بين كل الدراسات وسمّيت عن حق «بالثورية» أو «بالثوروية» لأنها تعبّر تماماً عن أقصى درجات الغضب والثورة عند المؤلف الذي ألّفها بعد بلوغه نبأ اجتياح بلاده بولندا من قبل الجيش الروسي، إنها عمل مؤثر ومتأجج تجتاز فيه يدا العازف أعلى درجات الصعوبة التقنية. تضاف إليها، كما مع تاتيانا، صعوبة التجديد في الأداء والخروج عن المألوف. لقد جنّ معها البيانو وتحمّس الجمهور الذي صفّق ملياً إعجاباً بالأداء الفذ. لم تهدأ يداها وكأنها توجّه السهام إلى العدو بيد، وتصرخ ألمها وغضبها باليد الأخرى.
بعد الاستراحة، تصدّت العازفة للمجلد الثاني المصنف رقم 25، وفيه من النضوج والصعوبة التخصصية ما قلّ نظيره. أوَليس شوبان شاعر البيانو ومرجعه في كل العصور؟ كل «دراسات» هذا المصنف صعبة وجميلة، لكن الأخيرتين 11و12 تستوجبان التوقف لأن الجمهور وقف طويلاً للتصفيق والتحية.
فـ«الدراسة» رقم 11 التي دعاها البعض «أمطار الشتاء» والبعض الآخر «عواصف ودموع الشتاء» تنهمر على زجاج بيت الفنان المتوحّد والحزين. فصعوبة أدائها وطرقات اليد اليسرى التي تجاوب نفحات اليد اليمنى المنهمرة، لا تحجب جمال مناخها ودعوتها السامع المنفعل شغفاً إلى الطيران من جوار الشهداء والمعذبين. إنها صرخات البطل المقاوم أيضاً لصنوف الدهر وعذابات العدوان. لقد قيل لنا إنّ العازفة كادت تطير هي أيضاً من فوق كرسيّها لأنها غابت أثناء الأداء في نشوة الكمال والسيطرة على الذات والآخر. أما «الدراسة» الأخيرة فإن مداها النغمي يجعلها شديدة الخطورة للعزف وخاصة أنها مسك الختام.