جوزف سماحة
صورة وكأن كل شيء قد قيل. صورة تثير غضباً. يمكنها أن تحدث فرقاً وفرزاً. ترغم الناظر إليها على تحديد موقعه وعلى حسم أمره: في أي جانب هو، وما هي واجباته؟ صورة تضاف إلى ركام سابق (ولاحق) من الصور تروي كلها قصّة واحدة وتمنع أياً كان وحيث كان من أن يزعم أنه لم يكن عارفاً ولم يكن مطلعاً ولم تتسنّ له المتابعة المباشرة لما يجري. صورة تمنع أياً كان من أن يكون مستريحاً، وترغمه على أن يرى فيها جانباً من الظلم اللاحق به.
إنها صورة الفلسطيني المرمي إلى جانب الطريق عند بوابة تقود إلى وطنه. إلى ذلك الشطر من الوطن الذي يزعم الاحتلال أنه انسحب منه، إلى تلك البقعة التي تشكل، بحق، واحداً من أكبر السجون في العالم.
الفلسطيني المقصود ليس سوى رئيس الوزراء المنتخب الذي لا تمنعه الشرعية الشعبية التي يتمتع بها من أن يجسّد، عبر التشرّد المؤقت، المصير المرسوم للفلسطينيين نتيجة التبديد السياسي الإسرائيلي لهم.
تلتقط صورة إسماعيل هنيّة لحظة عابرة عند معبر رفح. ليست عابرة تماماً. إنها نتيجة تلاقٍ بين روافد عديدة.
الرافد الأول هو الاحتلال الإسرائيلي. الاحتلال المتمادي والمستمر والمفتوح على أفق لا نهاية قريبة له. وبينما كان رئيس الوزراء الفلسطيني محجوزاً كانت المحكمة العليا الإسرائيلية تصدر حكمها بقانونية القتل وتحيطه باحترازات ستلقى تعنيف العالم المتمدّن كلّه وتكون مناسبة للتذكّر أن المدنيّة وصلت بإسرائيل إلى حد جعلها تلغي عقوبة الإعدام!
الرافد الثاني هو انحطاط الوضع العربي الرسمي. يتهاوى يوماً بعد يوم. يبدو أن قدمه لن تطأ أي قعر. يتهاوى ويزداد فجوراً. يتخلّع، يتصدّع، ويبحث عن تماسك وهمي في أعداء يخترعهم، هم، في الحقيقة، أعداء المسؤولين عن هزيمته. أو لنقل إنهم «الأعداء» الذين يحاولون ملء فراغ أحدثه تخلّي الأنظمة العربية عن الحد الأدنى من واجباتها. يعتقد قادة عرب أنهم وجدوا في «الاعتدال» الوصفة السحرية لرفع الظلم عن شعوبهم وعن الفلسطينيين. يتجاهلون أن هذا الظلم إنما هو، في وجه من وجوهه، الابن الشرعي لهذا «الاعتدال». يرون أن الحل، إذاً، في مزيد من الاعتدال. لم يلتق الرافدان الأول والثاني تماماً بل يمكن القول إن إسماعيل هنيّة كان محاصراً بين رافدين متوازيين يتساعدان.
الرافد الثالث هو التواطؤ الدولي. كلمة «تواطؤ» مهذّبة بعض الشيء. حراس المعبر الأوروبيون انسحبوا تلبية لأمر إسرائيلي. والحراس، حيث هم، ينفّذون أمراً سياسياً هو كناية عن حصار الشعب الفلسطيني وتجويعه عقاباً له على الاختيار الديموقراطي الحر. لم يكتشف النظام الدولي الشعب الفلسطيني وحقوقه إلا من زاوية الاهتمام بالأمن الإسرائيلي. وأقصى ما جرى التوصّل إليه في هذا المجال هو أن المصلحة الإسرائيلية البعيدة المدى تقضي بإنقاذ إسرائيل من احتلالها لشعب آخر. أما إذا ارتأت قضم المزيد من أراضيه فلا بأس فالمهم أن تتحرّر إسرائيل من الفلسطينيين.
الرافد الرابع هو الانهيار المريع الذي يصيب جزءاً من الحركة الوطنية الفلسطينية. لقد انتقل قسم منها إلى الضفة الأخرى. يملك من المبرّرات ما يملك من المبررات. إلا أن برنامجه ينهض فوق مزيج من التعب والملل والضجر والفساد والاستئثار والارتضاء بأقل قدر ممكن من السلطة فوق أقل قدر ممكن من الأرض على أقل قدر ممكن من الشعب. ومع أن إسرائيل غير راضية بذلك فهو يحاول!
لا مجازفة في القول إن المواطن العربي العادي يتماهى مع تلك الصور لإسماعيل هنيّة، مع المهانة التي عاشها الرجل لساعات تختصر عقوداً.
إذا أردنا، من لبنان، إسقاط ما نعيشه على هذه الصور وجدنا أن علينا أن نزيل ركاماً من الادعاءات. فإسماعيل هنيّة هو، في الواقع، تجسيد لكل ما تكرهه السلطة وأحزابها وتدينه عبر ثقافتها وإعلامها وتصريحات قادتها. إن سلطتنا هي في صفّ المحاصرين وهي، مثلهم، تضع فلسطين على لسانها.
نكتفي باستعادة عدد من الأطروحات في «الساحة» اللبنانية، وهي أطروحات تميّز «تيار المستقبل» بانضمام حماسي إليها فطوّر منظومة أفكار يراد لها التأسيس لوعي جديد. هذه عيّنة من «المستقبل الجديد»:
ـــ من هو الذي سبّب جلب الحصار على شعبه؟
ـــ من هو المصرّ، خلافاً للواقعية، على حق الشعب في المقاومة؟
ـــ من هو الذي قام بمغامرة غير محسوبة بإقدامه على «اختطاف» وقتل جنود إسرائيليين مما أدّى إلى قيام الاحتلال بالتدخل والتدمير؟
ـــ من هو الذي عزل نفسه عن العمق العربي؟
ـــ من هو الذي يصرّ على مخالفة إرادة المجتمع الدولي ويرفض الأخذ بالقرارات الصادرة عنه ويعاند في تشكيل الحياة الوطنية حسب الإملاءات الخارجية؟
ـــ من هو الذي جعل نفسه أداة للمحور الإيراني ـــ السوري حتى إنه زار طهران ودمشق ورأى فيهما عمقاً استراتيجياً؟
ـــ من هو الذي يعطّل الحوار الداخلي ويدفع نحو مواجهة لأنه يتلقّى الأوامر من الخارج؟
ـــ من هو الساعي إلى تحصيل أموال خارج القنوات الرسمية؟
ـــ من هو الذي يخاصم شرعية تدّعي العروبة والنضال وترى نفسها الأقدر على استعادة الأرض المحتلة؟
تنطبق هذه المواصفات التي يطلقها «النيو ـــ مستقبل» على الأمين العام لحزب الله حسن نصر الله. ولكنها هي نفسها «الاتهامات» الموجّهة إلى إسماعيل هنيّة، وهي التي استدعت وبرّرت ما حلّ به في معبر رفح وبعد ذلك.
لبنانيو السلطة شركاء في محاصرة هنيّة لمجرد أنهم شركاء في محاصرة المقاومة في لبنان. لا دخل للمذهبية في ذلك، لا من قريب ولا من بعيد. ولا صدقيّة لهذا الخلط بين حصار نصر الله (أو الرغبة في ذلك) وبين التفجّع على المصير البائس للشعب الفلسطيني.
كما يحصل هناك يحصل هنا. يحسن عند الانحراف رفع منسوب اللغط القوموي. لا تستطيع «القوات اللبنانية» فعل ذلك لذا يتولّاه «المستقبل» في حلّته الجديدة.