strong>غسان سعود - جاد نصر الله
حجارة دير القمر التي صمدت عند مفترق السوديكو أكثر من ثمانين سنة قد تتحوّل إلى متحف يحوي تاريخ بيروت بين جدرانه. وهكذا سيمضي مبنى بركات، أو «البيت الأصفر»، نحو مرحلة جديدة على رغم أن تفاصيله كلّها تبدو وكأنّها تعانق زمن الحرب، وترفض الخروج إلى الحياة مجدّداً

عشيّة الحرب الأهلية عام 1975، قامت بلدية بيروت بغرس قرابة مئة شجرة على طول الطريق من المتحف حتّى السوديكو، وصولاً إلى وسط بيروت. صار هذا الطريق لاحقاً خط تماس يفصل بين المقاتلين المسيحيين والمسلمين. وعلى رغم ضراوة القتال، سرعان ما نمت الأشجار، وشكّلت حدوداً بين «الشرقية» و«الغربية». وبعد سنوات قليلة، ارتسم خط أخــــــضر في صورة الحرب ودمارها.
توقّفت الحرب. بدأت حملة إعادة الإعمار. كان الهدف الأوّل وسط بيروت والمناطق المحاذية لخط التماس. قُطعت كل تلك الأشجار باستثناء واحدة. ورُمّمت معظم الأبنية المهدّمة جزئياً، وعادت غالبية العائلات إلى منازلها. لكنّ شجرةً ومبنى وسكانه غادروا من دون إبلاغ دائرتي البريد والهاتف بعنوانهم الجديد. هي، شجرة شُحّلت أخيراً. وهو، البيت الأصفر. أمّا هم فسكان هذا البيت كيفورك أكوبيان وأنطون غانم ونبيه طبارة وابراهيم عياش وجوزيف غطاس وفيكتور بركات وغيرهم العشرات ممّن تنبئ أسماؤهم بتنوّع هويّاتهم الطائفية.
قبل الحرب وأثناءها
كلما خطا الضيف في البيت أكثر، ازداد قدرة على استعادة صور غريبة عن أحداث يشهد البيت عليها. نجد على الجدران رسم قنّاص، سجائر، منازل صغيرة، غيوم... وشعارات كثيرة، أبرزها: «أبو داني مرّ من هنا... نمور الأحرار... مع جيلبير سأموت». يُكمل الجيران رسم الصورة، فيؤكد أحدهم أن محالّ تجارية عدة كانت تزنّر المبنى. كيفورك أكوبيان لبيع السجاد، أنطوان غانم لبيع الأدوات المنزلية، الكندرجي نقولا طرّاف، وقربه الحلاق النسائي أفرام زغيب، ثم البقّال عبد الرحمن بحصلي ونبيه طراد صاحب محل سمانة، ومصطفى الشر لتصليح الدراجات.
وللرواية تتمة، تزيد من رمزية البيت. فالمبنى الذي سبق أن سكن فيه طبيب الأسنان الكتائبي نجيب شمالي في شقة مجاورة للفلسطيني خليل فلاحة، سرعان ما فقد جو الودّ بين أهله بعد أن اندلعت الحرب. وتحوّل إلى المقر القتالي الأكثر استراتيجية بالنسبة لمقاتلي الكتائب اللبنانية والأحزاب الحليفة. لماذا؟ لأن البيت أولاً، وبحسب أحد قدامى القياديين الكتائبيين، يقع في نقطة مميّزة جداً فيمسك محتلّوه بشرايين شارعيِ الشام والاستقلال، إضافة إلى وجوده على تقاطع طرق رئيسي. ويُضاف إلى هذه سبب آخر يتمثّل في شكل العمارة، إذ يعدّ البيت الوحيد من جهتَيْ خط التماس الذي لم تظهر على جدرانه أي كوّة. وتقول المهندسة منى حلاق إن القناصين اختاروا مواقعهم بذكاء، واحترموا التراث المعماري، فجعلوا الدار الثلاثية القناطر ثلاثية القناصين. وكان لكل منهم قنطرته الحارسة. وتختلف مستويات فتحات التقنيص في الجدران باختلاف وضع القناصين: منهم الواقف، ومنهم الجالس، ومنهم من يستسيغ القتل وهو في وضع الانبطاحانتهت الحرب، غادر المقاتلون تاركين وراءهم رسوماً وذخائر مستهلكة والكثير من أعقاب السجائر وصور بيار الجميل، والشيخ بشير، وفراغات في البناء تكشفه للجمهور. أما المستأجرون السابقون، فبكلّ بساطة... اختفوا.

  • ...وللحرب متحف

    يقول المحامي جورج فارس الذي وكّله مالكو المنزل متابعة القضية، إن المالكين حاولوا ترميم المبنى، وطلبوا من بلدية بيروت «إجازة هدم وإعادة بناء». لكن حملة إعلامية أثيرت بوجههم انتهت باعتبار بلدية بيروت أن البناء أثريّ، ثم عادت وطلبت استملاك المبنى. وبعد سجالات قضائية وإعلامية بين مالكي المبنى وجهات متعددة، صدر بتاريخ 26 حزيران 2003 المرسوم رقم 10362 الذي قضى بإقامة «متحف وملتقى ثقافي وفني وحضاري ومكان لحفظ الأبحاث والدراسات التي تتناول مدينة بيروت عبر التاريخ، ومكتب التنظيم المدني لبلدية بيروت، ومواقف للسيارات تحت أرض العقار، وإقامة مبنى على المساحة الباقية منه غير المبنية، تُخصص لاستعمالات بلدية متنوعة لتقديم خدمات للمواطنين ذات طابع اجتماعي وثقافي». وتقرر أن تُدفع تعويضات هذا المشروع من الاعتمادات المفتوحة لهذه الغاية من موازنة بلدية بيروت. كما حددت المدّة القصوى التي يجب أن تباشر خلالها معاملات استملاك هذا المشروع بثماني سنوات، اعتباراً من تاريخ نشر المرسوم. ويُذكر أن تقارير الدوائر الفنيّة في بيروت قدرت كلفة استملاك المبنى بقرابة 268000 دولار أميركي، أما كلفة الترميم فتقارب 2224000 دولار. على أساس أن كلفة ترميم المتر الواحد من البناء تقدر بـ800 دولاروهكذا كان. دفعت البلدية ثمن العقارين. ووعدت بإقامة متحف ما زالت معالمه وأهدافه مستترة على كل من يسأل عن الموضوع، بمن في ذلك المعنيون، وأبرزهم أعضاء البلدية الذين وقّعوا على كل القرارات المتعلقة بإنشاء المتحف. والسؤال الرئيسي الذي يطرح اليوم هو كيف ستُقام مواقف للسيارات تحت بناء يهتز كلما مرت شاحنة بقربه، وماذا سيضم المتحف، وبماذا سيتميز عن المتحف الوطني «المجمّد» على بعد عشرات الأمتار من «المتحف المستقبلي». والأهم من ذلك كلّه، كيف لُزّم الترميم إلى شركة خاصة من دون إجراء أية مسابقة؟
    يعيد عضو بلدية بيروت رشيد جلخ تأخّر العمل في المبنى إلى تعذّر مجيء البعثة الفرنسية التابعة لبلدية باريس لإجراء المسح الفني. وكان رئيسا بلديّتي باريس وبيروت قد وقّعا قبل نحو شهرين اتفاق تعاون يشمل ثلاثة مواضيع، أحدها إعادة ترميم «البيت الأصفر».
    وأشارت إحدى الصحف الأجنبية إلى أن مشروع إقامة المتحف هي فكرة مشتركة بين بلدية بيروت والحكومة الإيطالية التي قدمت تمويل الوثائق العلمية والمشروع السياحي الذي وضعه مركز «الأبحاث الأثرية والتنقيب» في مدينة توران الإيطالية. وبحسب الصحيفة، تتركز المشاركة العلمية الإيطالية على المشروع الثقافي للمتحف وطريقة عرض القسم المخصص للحقبات الرومانية والبيزنطية والإسلامية وحتى التغيرات الأخيرة التي شهدتها مدينة بيروت أوائل القرن العشرين. وسيضم المتحف طبقتين، تنقلان الزائر من العصر الحجري والبرونزي، عبر صالات مخصصة للحقبات الآرامية والفينيقية والفارسية والرومانية وحتى العهد البيزنطي والإسلامي والعثماني، من دون نسيان أهم تحوّل شهدته المدينة خلال الانتداب الفرنسي.
    وفي انتظار اللحظة الصّفر لبدء العمل، على اللبنانيين، مقيمين ومغتربين، أن يبحثوا عن آثار مدينتهم. فغداً سيحظون بمتحف يجمعها، يقول أحد الجيران. ويتابع «عندها تكتشف بيروت تاريخها، علّها تستفيق!».




    من الحجر إلى الإسمنت

    يعود تاريخ مبنى بركات إلى العشرينيات من القرن الماضي. وتكمن أهمية المحافظة عليه في كونه يوثّق لمرحلة انتقالية في تاريخ لبنان العمراني، حين بدأ التحوّل من عمارة الحجر إلى استعمال الإسمنت المسلّح كمادة أساسية في هياكل البناء، وتمّ الانتقال من منازل القرميد إلى ما يُسَمَّى بالـ«walkup apartments»، أي تلك التي يفوق ارتفاعها الطبقتين ويجري الانتقال العمودي فيها عبر الأدراج الداخلية.
    يوم بدأ المهندس يوسف أفتيموس بِخَطِّ أوّل التصاميم لهذا المبنى، أراد الاستفادة قدر المستطاع ممّا قدمه له الموقع المميز المتقاطع على شوارع ثلاثة. «احترم الزاوية». رَسَمَ كتلتين، من ثلاث طبقات، تواجهتا حتى وُلِدَ الفراغ بينهما. لم يُمَيِّز بين وظائف الشقق على اختلافها. أعطى لكل منها منظره المطلّ على المدينة ولم يبقِها حكراً على غرف المعيشة والاستقبال. انْسَلـَّت أشعة الشمس إلى جميع أرجاء المنزل فاستوفت المساحات حقها الكامل من النور الطبيعي. حتى الغرف الشمالية عرفت أشعة الشمس. المسألة شبه المستحيلة في التخطيط الهندسي. حين شرع أفتيموس بأعمال البناء، استقدمَ الحجر الفرني من دير القمر وشَيَّدَ به الطبقة الأرضية المخصصة للمحال التجارية، التي بلغ عددها ثمانية، بالإضافة إلى الطبقة الأولى. عَرفَ المَلّاكون أزمة مادية، اضطرّتهم الطلب من أفتيموس توقيف الأعمال التنفيذية إلى أجل غير مُسَمَّى.
    بعد عدة أعوام، أَتَمَّ المهندس فؤاد قزح ما بدأه أستاذه أفتيموس مستوحياً من الرسوم الأولى. استعمل الإسمنت وطلاه باللون الأصفر بحِرَفية عالية حتى صَعُبَ التمييز بينه وبين الحجر المصقول. ارتفع قزح بباقي طبقات المبنى وربط بينها بواسطة جسور معلقة في الهواء ظلّلتها الأعمدة. ابتُدِعَ الإيهام البصري وكان أكبر محور للرؤية عمودياً وأفقياً، وأمكنَ للواقف على الطرف الآخر من الطريق أن يُطل بنظره من بين الفتحات ليرى السماء عبرها.
    يُعَبِّر المبنى عن انتمائه الى الطبقة البورجوازية في القرن الماضي: سلالم خاصة للوصول مباشرة الى حيّز الخدمات. غرف خاصة في أعلى المبنى مخصّصة للغسيل، وعلى أسطحها كان يصعد السكان ويتمدّدون، مُعَرِّضين أجسامهم لأشعة الشمس.




    تحيّة إلى يوسف أفتيموس

    ولد يوسف أفتيموس في عام 1866. درس في الكلية الإنجيلية السورية (الجامعة الأميركية في بيروت) قبل انتقاله في عام 1885 إلى نيويورك حيث درس في اليونيون كولدج وتخرّج منها مهندساً مدنياً سنة 1891عَمِل في شركة السكة الحديد وفي شركة الكهرباء في شيكاغو، وشارك فيها بتصميم وتشييد قصر فارسي وفيللا تركية، و«شارع القاهرة» من أجل المهرجان العالمي الكولومبي، سنة 1893.
    انتقل إلى أوروبا في عام 1895، وتنقل بين أنفير وبلجيكا وألمانيا حيث تخصص وعَمِلَ خلالها في الهندسة المعمارية قبل أن يعود للاستقرار في بلده الأمّ. يُعدّ يوسف أفتيموس واحداً من أهم المعماريين اللبنانيين في بداية القرن العشرين. بصماته مطبوعة في أرجاء العاصمة بيروت من خلال المباني التي شيّدها، ومنها مبنى البلدية في شارع ويغان ونافورة الحميدية ومطرانية الروم الكاثوليك ومنزل السفير الفرنسي والتياترو الكبير وأقسام من مستشفى «أوتيل ديو». تولّى منصب وزير للأشغال العامة في عام 1926 في عهد شارل دباس.