نقولا ناصيف
يتصرّف فريقا الغالبية الحاكمة والمعارضة على أساس أن معركة كل منهما لكسر الآخر قد تطول إلى شباط المقبل، من غير أن يكونا متأكدين تماماً من نجاح هذا الهدف، ولا من أن التسوية ممكنة بينهما بلا «تحمية». والمقصود بذلك حدث سياسي مباغت يرغم أحدهما على التخلي للآخر، أو حادث أمني يجبرهما على الدخول مجدّداً، وجدّياً، في التفاوض والحوار. وتعكس معطيات مشتركة لديهما هذا الواقع:
1 ــــــ ليس من السهل لأحدهما أن يحسم المواجهة السياسية في الشارع في وجه الآخر، نظراً إلى البعد الإقليمي الذي يقف، ضمناً، خلف كل منهما بحيث أرسى توازناً داخلياً من شأنه استنزاف الطرفين وإنهاكهما سياسياً وشعبياً. وما دامت إسرائيل قد أخفقت في حرب 12 تموز في حسم المواجهة العسكرية بينها وبين «حزب الله» بسبب البعد الإقليمي والدولي الذي انطوت عليه هذه الحرب، فالأحرى أن التوازن نفسه هو الذي يوجّه اليوم الشق الداخلي في الصراع الناشب بين الغالبية والمعارضة.
وقد تكون المفارقة هنا دفاع كل منهما عن وجهة نظره الرافضة لتسعير الاحتقان المذهبي، ودفع الشارعين السني والشيعي إلى الاشتباك، وإصرارهما على حلّ المأزق سياسياً: لا الغالبية الحاكمة تريد تفكيك السلطة التي بين يديها، ولا حزب الله يريد توجيه سلاحه إلى الداخل، وهو الذي يرى أمينه العام السيد حسن نصر الله قد نجح في أن يكون الزعيم الشيعي ذا الامتداد السني في العالم العربي للمرة الأولى في تاريخ منطقة شهدت غالباً زعيماً سنياً ذا امتداد شيعي كالملك فيصل الأول والرئيس جمال عبدالناصر والقائد الفلسطيني ياسر عرفات.
2 ــــــ يبدو من السخرية القول، منذ الأول من كانون الأول مع نزول المعارضة إلى الشارع والاعتصام فيه، بأكثرية وأقلية. بل الأصح أن النزاع القائم الآن هو بين أكثريتين لكل منهما شارعها، وإن يكن هذا التقدير في لغة الحساب والإحصاء ساذجاً، لأن تكوّن أكثرية يفترض وجود أقلية ضعيفة وعاجزة على الضفة الأخرى من الصراع. وليس هذا هو الواقع اللبناني. إلا أن للغالبية الحاكمة امتيازاً يرجّح كفتها في السلطة هو أنها تملك، حتى الآن على الأقل، ثلثي مقاعد السلطة التنفيذية وأكثر من النصف زائداً واحداً من مقاعد مجلس النواب. وهما أكثريتان دستوريتان واقعيتان لا لبس فيهما. بيد أن الامتياز الآخر الذي مكّن المعارضة من تبديد فاعلية الأكثرية الدستورية تلك، أن حكومة الرئيس فؤاد السنيورة تبدو اليوم في شلل وعجز شبه تامين. منذ استقالة الوزراء الشيعة الخمسة في 13 تشرين الثاني الفائت لم ينعقد مجلس الوزراء إلا مرتين فقط، ولجدول أعمال محدّد ببند واحد هو إقرار مشروع المحكمة الدولية في اغتيال الرئيس رفيق الحريري والإصرار على هذا الإقرار. الأولى في 13 تشرين الثاني، والأخرى في 12 كانون الأول. ومنذ ذلك الحين يقتصر عمل الحكومة على لقاءات بين الوزراء المعتصمين في السرايا واستقبالات شعبية للسنيورة واجتماعات سياسية ودبلوماسية أو أسفار، من غير أن يكون في وسع حكومة الغالبية ــــــ وقد بات نصابها يتجاوز ثلثي المقاعد ــــــ اتخاذ قرار. وهي بذلك أضحت بين فكّي الصلاحيات الدستورية التي يواجهها بها رئيسا الجمهورية ومجلس النواب. لا الرئيس إميل لحود يوقّع قراراتها جاعلاً بهذا اتخاذها عديم الجدوى، ولا هو يكمّل نصاب أعضائها. ولا الرئيس نبيه بري يتسلّم مشاريع قوانينها ما لم تكن مراسيم إحالتها ممهورة بالتوقيع الملزم لرئيس الجمهورية، ولا هو يدعو مجلس النواب إلى الانعقاد انطلاقاً من اعتقاده ــــــ كرئيس الجمهورية ـــــــ ببطلان شرعيتها.
وهكذا تبدو حكومة السنيورة كأنها تعمل تحت سطح البحر: تملك السلطة من دون أن تحكم أو تنجح في فك حصار الشارع عنها.
ولعلّ هذا الواقع يماثل سابقتين مختلفتين شهدهما لبنان: الأولى عام 1969 هي أزمة حكم استمرت سبعة أشهر بسبب إصرار الرئيس المكلف حينذاك رشيد كرامي على عدم الاعتذار عن تأليف حكومة جديدة، وفي الوقت نفسه رفضه تأليف هذه الحكومة. والثانية عام 1986 عندما أدت قطيعة بين رئيس الجمهورية أمين الجميل ورئيس الحكومة ــــــ للمفارقة أيضاً ــــــ رشيد كرامي إلى تعطيل انعقاد مجلس الوزراء الذي انقسم بين مؤيدين لسوريا وآخرين لـ«الجبهة اللبنانية»، وإلى اختراع بدعة المراسيم الجوّالة. وهذه هي حال الحكومة الحالية: لا تجتمع. وإذا اجتمعت لا تقرّر. وإذا قرّرت تعجز عن تطبيق قراراتها.
3 ــــــ يبدو واقع الشلّ الكامل لآلة الحكم، وخصوصاً في السلطة الإجرائية، هو ما تراهن عليه المعارضة، فتوازي به فاعلية تحرّكها في الشارع. وقد نجحت ما بين اليوم الأول للاعتصام المفتوح في ساحتي رياض الصلح والشهداء في الأول من كانون الأول والعاشر منه حين تدفقت مئات آلاف من المعتصمين في مشهد لا سابق له، في كسر المعادلة النافذة منذ انتخابات 2005، وهي أن قوى 14 آذار تملك أمام المجتمع الدولي سرّ حكم لبنان: إمساكها بمفاصل السلطة والمؤسسات (ما خلا رئاسة الجمهورية)، وتمثيلها الغالبية الساحقة من اللبنانيين في الشارع. ولكن حصل منذ حشد 10 كانون الأول رسم ملامح مختلفة: انتزعت المعارضة من الغالبية ساحة انتفاضتها، ساحة الشهداء، وجعلتها باحة انقلابها على السلطة المركزية الحاكمة، وحملت الغالبية في المقابل على التنقّل بجموعها إلى المناطق، من مدينة إلى أخرى ومن بلدة إلى أخرى. علماً بأن ساحة الشهداء شكّلت رمز انتصار الغالبية الحالية وانتفاضتها عندما كانت في المعارضة في 14 آذار 2005.
4 ــــــ توافق الغالبية المعارضة على توجّسها من أنها لن تعطيها من المحكمة الدولية وحكومة الوحدة الوطنية ما تريده: لا التخلي عن الصيغة الحالية للمحكمة الدولية، ولا عن الثلثين المقررين في مجلس الوزراء. ويعزّز وجهة النظر هذه ما تتحدّث عنه مصادر رسمية مسؤولة عن معلومات مستقاة من جهات وثيقة الصلة بدمشق، تفيد بأن هذه أطلقت يد حلفائها اللبنانيين لتصعيد المواجهة ضد المحكمة الدولية، بعدما حصلت القيادة السورية على «تطمينات دولية موثوق بها» بعدم إقرار مجلس الأمن محكمة دولية تقع أحكامها تحت الفصل السابع في ميثاق الأمم المتحدة. وتشير المعلومات المستقاة من دمشق إلى أن قيادتها لا تمانع بالضرورة إنشاء محكمة دولية تقع أحكامها تحت الفصل السادس، ما دام ليس في الإمكان تعطيل إنشائها الذي تنصّ عليه قرارات عدّة أصدرها مجلس الأمن. وتالياً، فإن محكمة كهذه، في ظل إخفاق توصّل اللبنانيين إلى «اتفاق متكافئ» على مشروعها كما هي الحال اليوم، لا تعود مصدر قلق لسوريا ولا تعرّض مسؤولين كباراً فيها، مدنيين وعسكريين، لمطاردة دولية. وفي وسع حل كهذا ملاءمة مصالحة سعودية ــــــ سورية.