جوزف سماحة
كان كارل ماركس يقول إن بريطانيا هي البلد الذي يذهب فيه الصراع الطبقي إلى نهايته. فهل يمكن القول عن لبنان إنه البلد الذي يذهب فيه الصراع الطبقي حتى نهايته... الطائفية؟! يخطر هذا النوع من «التزوير» في البال عند متابعة ما يقول أركان حركة 14 آذار وإعلامها عن الاعتصام المفتوح في وسط بيروت.
العبارة المفتاح في وصف التحرك وما يعبّر عنه من سياسات وتوجّهات هي أن كل ما نراه شديد الاتصال بـ«ثقافة الموت». أطلق أحدهم هذا الوصف ثم أردف، وهو في حضن القوى الدولية والإقليمية العاتية التي تحميه، «لن يمرّوا» مستعيداً الصرخة الشهيرة لـ«الباسيوناريا» وهي الصرخة التي كان يفترض أن تكون، في لبنان، حكراً على الذين منعوا العدوان الإسرائيلي من أن يمر.
إذا كان «أحدهم» هذا متسلّحاً بقراءات سطحية للفكر الغربي فإن ذلك لم يمنع من طرح العبارة في التداول. فبات رئيس الحكومة يحاضر في أن «غالبية اللبنانيين تختار ثقافة الحياة لا ثقافة الموت». وترجم قائد «آذاري» ذو ماضٍ عسكري دموي المقصود فاتّهم المعتصمين بأنهم يحاولون جعل لبنان «بلد الفقر والفقراء»، مضيفاً أن همّهم هو تعميم «فلسفة الفقر وعدم الرخاء والتعتير». ولا يحتاج المرء إلى عناء كبير ليكتشف كم أن «الموت» و«الفقر» متلازمان في سلّة الاتهامات الموجّهة إلى «الانقلابيين».
عندما تهبط هذه الأوصاف من عليائها لتتحوّل إلى أداء إعلامي يريد أن ينقل للمواطنين ما يفعله مواطنون آخرون، عندما يحصل ذلك نلامس حدود الفضيحة الأخلاقية.
هذه عيّنات مما يكتب. «البسطات السيّارة»، «النراجيل»، «الشاورما»، «المناقيش»، «إلغاء الأعياد علامة على ثقافة الموت»، «الأسواق الشعبية»، «أكوام المشروبات الغازية»، «الروائح»، «الشتائم»، «النزعات الساديّة العدوانية»، «التجهّم والعبوس والحداد»، «كره الحياة»، «كأنهم ليسوا من هذا البلد»، «العداء لمنطق المؤسسات التجارية»، «الخرائب والرثاثة»، «القاذورات»، «الأرصفة الأشبه بمقاهٍ لصغار الكَسَبَة»، «تشويه الجدران»، «مرتع المشرّدين والباعة الجوالين والعصابات والضحالة والخواء وتفاهة البروليتاريا الرثّة»، «الشحاذون وباعة الترمس والقهوة والكعك وأصحاب البسطات الوضيعة»، إلخ...
هذا غيض من فيض.
نحن هنا أمام كراهية طبقيّة ملبننة أي مستعيدة للتنميط الأيديولوجي الطوائفي، والغارفة من المخزون العنصري لوعي يميني متشاوف. والواضح أن هذه الكراهية لا تطال الفقر بل الفقراء بصفتهم كذلك مع ما ينسب إليهم، وهماً، وخاصة لدى التداخل بين انتماء اجتماعي وانتماء طائفي، من أفعال وتصرفات وإهمال وميول تدميرية عدوانية. ويتخصص، في العادة، نوع معيّن من البشر بهذا النوع من التقدير. المرتدّ والضابط نفسه في خيانة يذهب أبعد من غيره. يعيش تماهياً مع صورة عن النفس متعالية عن هذه «الوضاعة» وقد يحصى له ذلك بسبب «نجاح» فردي أصابه وكانت طريقه إليه انتهازية اضطر إلى ممارستها وإلى سفح الكثير من كرامته في سبيل قدر من الترقّي.
فقط البورجوازي الصغير المضطرب هو القادر على إلقاء نظرة من هذا النوع. وهي تعبّر، في العادة، عن خوفه من أي انحدار، وعن احتقاره لمن هم دونه وتحتفظ ذاكرته الطريّة بما كان عليه عندما كان منهم. هذا التحقير هو الوجه الآخر لرغبة مقموعة في الاعتلاء وتقليد من هم «فوق»، ولأنها مقموعة فإن صاحبها يكتفي بوضع نفسه في الخدمة، متمنياً قبوله في هذه الدائرة المقفلة. ليس هذا هو سلوك البورجوازي التقليدي، ولا حتى «ابن العائلة» السويّ. إنه أقرب إلى سلوك «الثري الجديد» أو إلى الثقافة التي ينشرها الثراء السريع والتي تنتج، غالب الأحيان، أشخاصاً متخلّعين، هامشيين، يخشون أكثر ما يخشون أن ينظر إليهم كما كانوا لا كما يشتهون أن يكونوا. يحملون، باستمرار، جواز مرور طبقياً لا صلاحية له إلى موقع آخر ويحقدون على من هم مثلهم لأن هؤلاء يمثّلون عاراً أمام الأسياد.
إن من يعرف ألف باء الدوافع العميقة التي زوّدت الأحزاب الفاشية كوادرها الأكثر شراسة ودموية يكتشف في بعض اللبنانيين، وفي لحظة خجلهم من الفقر، مخزوناً لحزب لم ينشأ بعد. لم تتألف التيارات الفاشية من عمال ولا من أرباب عمل. كان عمودها الفقري هذا الصنف من البشر من الذين وضعوا قدماً خارج دائرة الطبقة العاملة، واتّصل بأرباب العمل، وأحبّ أن يظهر لهم كرهه للبيئة التي انحدر منها وتوقه إلى وضع عنفه في تصرفهم حتى لو كان العنف لفظياً.
يعتقد مروّجون لهذه التفاهات أن في إمكانهم، إذا غيّروا ولاءهم السياسي، أن يغيّروا انتماءهم الاجتماعي. تراهم ساخطين على «ساحة رياض الصلح» ومتوجّسين من «ساحة الشهداء» لأن الثانية تمثّل بالنسبة إليهم فردوساً مفقوداً لأنهم يعتقدون أن «سلوكها» الاجتماعي كان يجب أن ينتج موقفاً سياسياً مغايراً. وهكذا تتضاعف أزمتهم لأنهم، فوق الخذلان الطبقي الذي يعيشونه بمرارة، يعانون «خذلاناً طائفياً» لا يجدون أي جواب عليه.
يكرهون التحرك لأنه فوضوي. كانوا سيكرهونه لو أنه منظّم. يكرهون «ثقافة الموت» ويؤيّدون نهجاً يريد تأسيس الحياة السياسية بكاملها على الشهداء والأولوية الحاسمة للاقتصاص من قاتليهم. يستنكرون «كلفة» الاعتصام ويتناسون أن اعتصامات سابقة كانت، هي الأخرى، مكلفة. يرون حشداً معيباً في الوسط ولا يرون أي عيب في حشود الأطراف.
اللافت أن حملة عارمة يشهدها لبنان ضد «النزول إلى الشارع». ولا ينتبه أحد كفاية إلى أن هذه الحملة إنما تنطلق من منابر في البقاع والجبل والشمال هي، بالضبط، منابر خطابات أمام حشود نزلت إلى الشارع. هذه الملاحظة شكلية. فالجوهري هو أن الجماهير التي تلبّي نداءات الموالاة وتنتصر للحكومة هي، تماماً، من طينة الجماهير التي تلبّي نداء المعارضة في الوسط التجاري. ومن راقب الوفود التي أمّت السرايا لاحظ، من دون شك، مدى الشبه مع البشر البعيدين عشرات الأمتار من السرايا نفسها: الوجوه نفسها، السحنات نفسها، الملابس نفسها (ليس في الحالات كلها)، الحركات نفسها، الهتافات نفسها، المفردات نفسها... وحتى فؤاد السنيورة آخذ في التحوّل من مسؤول بارد إلى قائد سياسي شعبي تتغيّر لغته الجسدية لتماثل الخطباء مثيري الحماسة.
إن المشاركين في مهرجان الموالاة بدعوة من «تيار المستقبل»، وزوار السرايا، هم، على الأرجح، من الذين لم تخطر مصالحهم الملموسة أبداً في بال قادة «المستقبل» ولا في بال السرايا. إلا أن العصبية تشدّهم. ويمكن الرهان أن دافعهم للتحرّك متصل بتحريض ذي نبرة زرقاوية أكثر بكثير من اتصاله بآخر اجتهادات جهاد أزعور عن السياسات النيو ـــ ليبرالية المقترحة.
ألا نلمح، هنا، ملمحاً معروفاً: ما هي الصفة التي تطلق على الأحزاب والتيارات التي تكون وظيفتها إلحاق جمهور مفقر بطبقات اقتصادية مهيمنة؟ بتعبير أدق، ما هي صفة هذه الأحزاب التي تؤدي هذا الدور مستعينة بأيديولوجيا محافظة تستر عري المصالح والتوجّهات؟
ثمة قعر طبقي في المواجهة المندلعة اليوم. لكننا في لبنان حيث في إمكان احتدام صراع من هذا النوع أن يعزز تشنجات لا علاقة لها به.
لن نطالب «الاشتراكية الدولية» بفهم هذا التعقيد. فهي، منذ ولادتها، تعاني خللاً تكوينياً: غراماً لا يوصف بالحروب الكولونيالية!