نقولا ناصيف
لم تعُد الجولة الثانية من مهمة الأمين العام للجامعة العربية عمرو موسى في بيروت محاولة لإبقاء قنوات الاتصال غير المباشر بين الأفرقاء اللبنانيين عبر تقاطع الأفكار والاقتراحات لديه، من غير أن ينجح حتى الآن في حمل طرفي النزاع على اتخاذ مواقف أكثر مرونة، الأمر الذي يعكس انطباعاً بأن الجميع ذاهبون إلى هدنة لا إلى اتفاق، من غير أن يتزحزحوا عن شروطهم المتصلبة. وفي أبسط الأحوال، وخلافاً لما يقول به موسى، يعتقد الطرفان أن كل تراجع يُقدِم عليه أحدهما يجعله مغلوباً والآخر غالباً. وهو مغزى أن تؤيد الغالبية حلاً لا يجرّدها من الصيغة الحالية للمحكمة الدولية في اغتيال الرئيس رفيق الحريري، ولا من غالبية ثلثي المقاعد في الحكومة. كذلك بالنسبة إلى المعارضة بعدما وضعت للاعتصام المفتوح في الشارع حدّين، أدنى هو الثلث زائداً واحداً صافياً في حكومة الوحدة الوطنية، وأقصى هو إجراء انتخابات نيابية مبكرة لإعادة تكوين مجلس النواب وتحديد الأكثرية الجديدة في ضوء توازن قوى مرحلة ما بعد حرب 12 تموز.
وهكذا تبدو الأبواب موصدة في وجه الحل الجدّي بشهادة بعض نتائج اليوم الأول من الجولة الثانية لمكوكية موسى، الثلاثاء الفائت، فلم تفصح عن إيجابيات متوخاة استناداً إلى وقائع منها:
1 ـــــ اللقاء العاصف الذي جمع موسى برئيس المجلس نبيه بري، لوّح في ختامه موسى بأنه سيعلن فشل مبادرته عند باب رئيس المجلس الذي أجابه بأن الطرف الآخر هو الذي نقض كل الاتفاقات التي كانت قد عُقِدت سابقاً، وطلب إلى موسى ـ إذا شاء إعلان فشل مبادرته ـ أن يفعل ذلك على باب فريق الغالبية المسؤول عن هذا الإخفاق، لا عند بابه هو لأنه، وأفرقاء المعارضة الآخرين، لم ينقضوا الاتفاقات السابقة. وقال بري لزائره العربي إن الغالبية هي التي تراجعت عن كل ما وافقت عليه وأضافت اقتراحات أخرى غير مقبولة.
2 ـــــ رغبة موسى في الاجتماع بالأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله بعد لقائه بري، إلا أنه اجتمع بالمعاون السياسي لنصر الله الحاج حسين الخليل، وخرج بالخلاصة نفسها. وكان يأمل في الحصول من حزب الله على مرونة أكبر مما فاوضه فيه بري. وتالياً، فإن بري وحزب الله أصرّا على إعادة مناقشة الملفات الشائكة من داخل المؤسسات الدستورية، وذلك من خلال تراجع الغالبية عن اعتقادها بأن ثمة أمراً واقعاً فرضته على سائر الأفرقاء يقتضي الانطلاق من حيث انتهى.
3 ـــــ المعلومات التي تحدّثت عن العودة إلى النقطة الصفر في الآلية التي كان الأمين العام للجامعة العربية قد كشف عنها الخميس الفائت قبيل مغادرته بيروت، وتركزت في شكل رئيسي:
ـــــ على إعادة قانون المحكمة الدولية إلى رئيس الجمهورية (قبل أن تعمد الحكومة إلى نشره في الجريدة الرسمية نقضاً لاتفاق سابق بالتريّث).
ـــــ مباشرة اللجنة السداسية المكلفة إجراء قراءة جديدة لمشروع المحكمة الدولية، بالتزامن مع بدء العمل على تأليف حكومة وحدة وطنية، على أن يصار إلى إحالة نقاط التباين والاختلاف بين طرفي الغالبية والمعارضة في المشروع على حكومة الوحدة الوطنية التي تبتّها. إلا أن رئيس الحكومة أدخل تعديلاً جديداً رفضته المعارضة، ويقضي بأن تحال نقاط الاختلاف عليه، ويحيلها هو على رئيس الجمهورية دون المرور بحكومة الوحدة الوطنية.
ـ التفاهم على أن يُترك للمعارضة تسمية الوزير المستقل في حكومة الوحدة الوطنية، وتوافق عليه الغالبية حتى المرة الخامسة في تقاسم الحصص في الحكومة الجديدة تبعاً لمعادلة 19 + 10 + 1. لكن الغالبية رغبت أيضاً في تعديل طريقة التسمية، وأن يصار إلى اتفاق الطرفين، الغالبية والمعارضة، سلفاً على الوزير المستقل، لا أن تناط تسميته بالمعارضة.
لكن موسى أدخل أمس بعداً إضافياً إلى مهمته، هو إخراجه الأزمة الرئاسية من قائمة الحل المتداول، بتأكيده بقاء الرئيس إميل لحود في منصبه كي يكمل ولايته الدستورية. ومن شأن خيار كهذا مضاعفة العراقيل المؤدية إلى الحلّ، على الأقل بالنسبة إلى الغالبية التي تفضّل مقايضة نصاب جديد لحكومة الوحدة الوطنية بطرد لحود من منصبه وانتخاب رئيس جديد للجمهورية يخرج من صفوفها على الأرجح. وهو ما يؤكده قطب بارز في قوى 14 آذار، يرى أن السبيل الوحيد إلى مقايضة متكافئة يكمن في وجود رئيس جديد للجمهورية يطمئن الغالبية في مقابل تنازلها للمعارضة عن الثلث زائداً واحداً في الحكومة الجديدة.
والواضح أن مقايضة كهذه تعيد التوازن إلى رئاسة الجمهورية والسلطة التنفيذية في آن واحد، وتفضي إلى بناء ثقة واحترام متبادلين على مستوى ممارسة الصلاحيات الدستورية، ولا سيما منها المشتركة ـــــ وهي كثيرة ـــــ بين رئيس الجمهورية ورئيس مجلس الوزراء نظراً إلى أن جزءاً رئيسياً من الاشتباك السياسي الذي شلّ عمل حكومة الرئيس فؤاد السنيورة وعطّل قدرتها على المبادرة، رغم أنها لا تزال تمسك بثلثي مجلس الوزراء ولا عائق دون اجتماعها، هو الصلاحيات المشتركة بين لحود والسنيورة. إذ يقف كل من الرئيسين على طرف نقيض من الآخر، ويكبح كذلك قدرة الآخر على ممارسته صلاحياته الدستورية. وفي ظلّ الأمر الواقع، لا يعترف واحدهما بدستورية الآخر ويطعن في شرعيته. وهما بذلك يتواطآن على شرعيتيهما.
لكن الأفكار المحيطة بالأزمة الرئاسية، في مبادرة موسى، تتصل بملاحظتين لافتتين:
* أولاهما أن السبب الذي يحمل موسى على رفض إسقاط رئيس الحكومة في الشارع، هو نفسه الذي يجعله يتجاهل المطالبة بإسقاط رئيس الجمهورية قبل انتهاء ولايته الدستورية. وتتطابق وجهة نظره هذه مع موقفين سعودي ومصري، لا يجدان ما يبرّر إسقاط حكومة في الشارع، ولا إسقاط رئيس للجمهورية بالطريقة نفسها. وهما خياران بالنسبة إلى الدولتين العربيتين الكبريين أقرب إلى انقلاب لا تستسيغه طبيعة الحكم لديهما، وقد لا يكون من السهل عليهما تقبّل ظاهرة تضع مبادرة استمرار السلطة رهن قبضة الشارع. وعلى معرفتهما بحجم العزلة التي تطبق على الرئيس اللبناني محلياً ودولياً، لا تزال الرياض والقاهرة تعتبران لحود رئيساً دستورياً.
* ثانيتهما أن مبادرة موسى تحدّثت عن اتفاق على مرشح لرئاسة الجمهورية، لا على انتخاب رئاسي مبكر ولا على إنهاء ولاية الرئيس الحالي قبل موعدها الدستوري. الأمر الذي يعطّل تماماً أي جهد لحل أزمة رئاسية سبب مأزقها هو وجود لحود بالذات على رأس آلة للحكم يقودها مناوئون له، وإن فقد هؤلاء في الأسابيع الأخيرة الكثير من قدرات هذه الإدارة. إلا أنها تستمد مأزقها أيضاً من تعذّر الاتفاق على خلافة الرجل. والأحرى أن أحداً في لبنان ليس في وسعه أن يصدق إمكان الاتفاق على مرشح سرّي للرئاسة ووضعه على رفّ الانتظار أشهراً إلى حين أوان انتخابه.
والمؤكد أن موسى، المطّلع على تاريخ انتخاب الرؤساء اللبنانيين والربع الساعة الأخير الذي يختارهم، لن يعثر على ماروني لديه هذا الصبر.