جان عزيز
يروي إيريك إيشمان وكريستوف بولتانسكي في كتابهما ـــ الوثيقة الصادر قبل أسابيع «شيراك العرب»، أن مدير مكتب عمدة بلدية باريس في حينه جاك شيراك، السيد برنار بيو، كان يحاول أكثر من مرة حمل رئيسه على مناصرة قضايا مسيحيي لبنان، فيجيبه الرئيس الفرنسي الحالي: «هؤلاء الناس تركوا بلدهم، إنهم لا يفكرون إلا بالمال». ويضيف الكاتبان أن مساعد شيراك لا يزال يحتفظ ببطاقة دعوة وجّهت للأخير إلى المشاركة في قداس باريسي من أجل الكنيسة المارونية، وهي مذيّلة بكلمات بخط شيراك تقول: «للأسف! لقد تغيّرت الأزمان. لم يعد هناك مسيحيون ومسلمون، لا أخيار ولا أشرار. هناك كواسر يتناتشون لأسباب الطموحات الشخصية والمصالح المالية (...) في النهاية أريد المشاركة في قداسك باسم المبادئ الكبيرة، فرغم كل شيء، لا نزال نحتفل بموت لويس السادس عشر!».
هذا الكلام الموثّق يعود بحسب الكتاب ومؤلفَيه إلى عام 1983. كان ذلك قبل ميشال عون، وقبل سمير جعجع، وبعد صداقة شيراك مع بعض اللبنانيين، كما يؤرخها الكتاب ويفصّل. وهذا الكلام يقفز إلى سطح الوجدان المسيحي في لبنان اليوم، في ظل الاتهامات الخطيرة المساقة ضد ميشال عون في بعض الإعلام والأوساط، وأولها أنه يخالف الاتجاهات الغربية حيال لبنان.
على الضفة الأخرى من الأطلسي، لا كلام منشوراً حتى الآن يماثل هذا «الحرص» الشيراكي على مسيحيي لبنان، باستثناء بعض التوهّمات القديمة، والتي يؤكد كثيرون تضخيمها وبعض التلفيق، من أيام هنري كيسنجر ودين براون.
لكن الأكيد أن حقبة مناقضة جاءت بعدها، وهي تلك التي شهدت دخول سيد بكركي إلى البيت الأبيض في 17 آذار 2005، يوم وقف جورج بوش ليحمل كرسياً إلى أحد أعضاء الوفد الماروني، وهو يردد ببسمة معبّرة: «أريدكم أن تكون مرتاحين هنا!». هذه الحقبة جعلت الكثيرين من المسيحيين في لبنان ينسون سؤال ديفيد ساترفيلد الدائم زواره البيروتيين، عن «نسبة المسيحيين إلى سكان لبنان». وينسون صراحة فنسنت باتل سفيراً، في حديثه عن «قروسطيي جبل لبنان الذين يتوهمون أنفسهم محور الأرض في زمن العولمة». وهي الصراحة التي لم تمنع باتل نفسه من العودة للإقامة اليوم بعد تقاعده، في النصف البيروتي المنتسب إلى الذين «صارحهم» طويلاً.
لكن الأيام تبدّلت أيضاً في واشنطن بالنسبة إلى مسيحيي لبنان، ولأسباب ومسؤوليات عدة، بعضها ذاتي يقع عليهم، وبعضها موضوعي عائد إلى الظروف والسياسات والمنطقة. وهي في مجملها تعطي الحق لتساؤل سيد بكركي الدائم: «علينا أن نرى في أي إنجيل يقرأ هؤلاء!».
منذ 18 شهراً كاملة، دارت دورة الاتجاهات الغربية بما لا يتمناه مسيحيو لبنان، في أكثريتهم على الأقل. قيل لناظري واشنطن وباريس في بيروت بالحرف، إن تلك الانتخابات النيابية بقانونها السوري المعروف، ستهمّشهم. وقيل لهما إن هذه الحكومة ستزيد الخلل. وقيل لهما إن إسقاط هذه الموازين على الاستحقاق الرئاسي المقبل سيفجّر الوضع. وقيل لهما أكثر إن «علياً لن يرتكب الخطأ التاريخي نفسه مرتين، فيسلّم سلاحه إلى معاوية». وقيل لهما إن استقرار لبنان اليوم، في ظل الحرب المفتوحة بين الغرب والإسلام، بتقاطعيه السني ـــ الشيعي والعربي ـــ غير العربي، يقتضي دور الشراكة الكاملة والنزيهة للمسيحيين في هذا الوطن... من دون جدوى. حتى صار ميشال عون في موقع غير المصطفّ خلف الخيارات الغربية للبنان، بوجهها الشيراكي المذكور آنفاً، وبمقاربتها الأميركية التي تتعدى حدود لبنان، فصار موضع اتهام يسوّقه بعض الإعلام والأوساط المسيحيين.
ماذا يفعل ميشال عون بالمسيحيين؟ سؤال يضمره التسويق المذكور، صراحة أو مداورة، عن حسن نية بقائية، أو عن خبث دعائي، لكنه مطروح. وهو في عمقه يشي بنظرتين متناقضتين إلى الإنسان والجماعة، على كل مستويات وجودهما، المجتمعي والدولتي.
ثمة نظرة أولى تعتقد أن «دور» الإنسان وحده هو مبرر وجوده وعلّته. إذا وُجد «الدور» وُجد الإنسان، وإذا انتفى زال. وثمة نظرة ثانية تؤمن بأن «وجود» الإنسان وحده مبرر لوجوده. وبمعزل عن الخلفيات الفكرية والفلسفية الكامنة خلف النظرتين، يظل واضحاً أن أصحاب نظرية «الدور» ينتظرونه دوماً من الآخر. يتكيّفون معه، يلَقّنون مضمونه، يحفظونه غيباً ويتمتمون. أما أصحاب مبدأ «الوجود» فيسكنهم هاجس المدرسة المسيحية المحاصرة من سلطة «السنية السياسية» بالقوانين والممارسة والمال والمدير العام الشاغر. ويسكنهم هاجس الجامعة المسيحية المهددة من السلطة نفسها بتفريخ جامعات الدكاكين، وفق خطة منهجية تحدثت عنها أوراق المجمع الماروني. ويسكنهم هاجس الثقافة المسيحية التي كادت تسقطها السلطة نفسها يوم مررت انضمام لبنان إلى منظمة «إيسيسكو» التي تنص على أسلمة كل مناهج المجتمع. ويسكنهم هاجس الوجه الميثاقي لبيروت، غير المطمور على طريقة قسطنطينية محمد الفاتح، وغير المضطهد حتى في خليج مار جرجس وفندقه. ويسكنهم هاجس الشراكة في اختيار ممثليهم في السلطة، بقانون لا تدفن السلطة مشروعه في أدراجها. ويسكنهم هاجس الوسائط المجتمعية المهددة، في لبنان العقاري ولبنان المصرفي ولبنان الإعلامي، ولبنان الوكالات الحصرية ولبنان تعطيل الأحد أو الجمعة ولبنان النخيل أو الزيتون، ولبنان المحب للحياة... بكرامة.
لسبب ما، يبدو ميشال عون على حد هذا الصراع، ولسبب ما تبدو ثمة قلّة تريد أن تقنع المسيحيين بالاكتفاء بدور تشغيلي لماخور ومطبخ، مع وعد بأن يكونا مزدهرين.