سوزان هاشم
الجناة أحرار، وسبع ضحايا في عداد المفقودين. وتأتي الذكرى الثالثة لكارثة كوتونو، من دون أي جديد قضائي يذكر، في كارثة ذهب ضحيتها مئة وثلاثة وثلاثون من ركاب الطائرة. هل نزعت الدولة يدها عن هذه الكارثة الوطنية لتدخلات سياسية تحمي المجرمين، أم أنها بطبيعتها فقدت رعاية أبنائها، وخاصة الفقراء منهم؟

«روحو قلّعوا شوكّن بإيدكن»، هذه هي الطريقة التي تعاملت بها الدولة مع ذوي الضحايا في كارثة تحطّم الطائرة في كوتونو. فالسلطات اللبنانية نزعت عن عاتقها هذه القضية، وتهرّبت من مسؤولياتها، وألقتها على كاهل أهالي الضحايا بحيث أصبحت مصيبتهم مزدوجة. الأولى متمثلة بفقدان عائلاتهم، والمصيبة الثانية ملاحقة الجاني من خلال إقامة الدعاوى وما يترتب عليها من نفقات. فحتى الآن، لم تدفع المصاريف القضائية لذوي الضحايا، بالرغم من أن الدولة قررت سابقاً تخصيص مبلغ 500 مليون ليرة بدل نفقات الدعاوى، بيد أن هذا المبلغ لا يزال مجمّداً. وبعد تحرّكات لجنة الأهالي عند المسؤولين اللبنانيين، صدر قرار عن مجلس الوزراء بتاريخ 04/09/2006، يقضي بدفع مبلغ مليون ليرة عن كل دعوى للنقيب السابق للمحامين، الأستاذ سليم قسطا، كسلفة على حساب الأتعاب. وعلى ضوء ذلك، أرسلت وزارة العدل إلى وزارة المال كتاباً تطالب فيه بالمبلغ، لكنه لا يزال عالقاً، نظراً للأزمة الحكومية الراهنة.
تسويف في تحريك المسؤوليّتين الجزائية والمدنية
يبدو أن هذه القضية بأهميتها لم تحظ بالجدّية اللازمة، فهي على غرار بقية الدعاوى تخضع لإجراءات الروتين الإداري، والتأجيل سيد الموقف. فبالنسبة للدعوى المقامة في المحكمة الجزائية في بيروت، ضد د. خ.، المدير المسؤول عن طائرة «يو تي إي»، ومدير التشغيل م. خ.، والمدير العام أ. خ.، الذي أخلي سبيله بموجب كفالة، بالإضافة إلى مالك الطائرة ع. س. والطيار ن. ب.، فقد انعقدت آخر جلسة بتاريخ 24/11/2006، وتم تأجيلها إلى 01/02/2007، بسبب غياب المدّعى عليهم، لوجودهم خارج لبنان، وعدم اكتمال الوثائق والمستندات. وهنا، يعاد طرح السؤال: كيف، ومن هرّب المدّعى عليه د. خ. بعيد وقوع الحادثة إلى خارج لبنان؟
وبالعودة إلى الظروف التي أدت إلى وقوع الكارثة، وبحسب ما يقول رئيس لجنة أهالي الضحايا النائب السابق المحامي حسن علوية، فقد تبيّن «أن الطائرة هرمة ومستقدمة من صحراء سوازيلاند كخردة، لا لنقل الركاب. فهي غير صالحة للملاحة الجوية. علماً بأن بوليصة التأمين كانت تنقل من طائرة «ف3 أ ك» إلى الطائرة التي سقطت، وذلك لكي يقفزوا عن تقديم التقرير الفني». ناهيك عن ذلك فإن حمولة الطائرة كانت تزيد عشرة أطنان عن وزنها الطبيعي، فبحسب ما يروي أحد الناجين، فقد «كان يهرّب الماس على متنها بعد تخبئته في ثمار الأناناس والمانغا». ويقول علوية: «الأكثر غرابة، أن الطائرة قد عيّنت من نوع 732 أي أنها حديثة العهد، بيد أن نوعها الحقيقي هو 727. والسؤال الكبير: كيف سمح للطائرة بالمجيء والذهاب إلى بيروت 25 مرة قبل أن تقع، برغم تحذيرات الخبير الكندي راندل بيتشر، الذي نبّه السلطات اللبنانية من هذه الطائرة وخطورة استعمالها، نظراً لعدم صيانتها وقدمها»؟
أما بالنسبة للمسؤولية المدنية، فقد تم تقديم دعوى أمام محكمة البداية في بعبدا ضد الأشخاص المذكورين في الدعوى الجزائية، بالإضافة إلى تسع شركات تأمين. علماً بأن هذه الشركات كانت قد طرحت أن تدفع 26 ألف دولار عن كل ضحية، ولكن بحسب علوية فإن «البوليصة حددت بـ75 ألف دولار. ثم طالبنا بالتعويض بقيمة 200 ألف دولار بعد ثبوت الغش بالحمولة في الطائرة في تقرير لجنة التحقيق الفرنسية، ما يرتب عدم تحديد سقف للتعويضات».
ويؤكد ذوو الضحايا الذين التقتهم «الأخبار»، مجمعين بأن أي مبلغ لن يعوّضهم عن فقدان أحبائهم، وبالتالي فإن ما يشفي غليلهم فقط، هو محاكمة المدّعى عليهم «وعلى رأسهم د. خ.».
عتب على المسؤولين
وللعام الثالث على التوالي، تغيب بهجة أعياد الميلاد ورأس السنة عن عائلات الضحايا، بحيث تتزامن مع الذكرى السنوية للكارثة. فلا تنفك رباب ترفع نظرها عن صورة أخيها لقمان علوية، الذي رحل في مقتبل شبابه، مستغربة «أن القضية لم تستحوذ على أدنى أهمية تذكر، لأن من راحوا مجرّد مواطنين». أما «مي» التي فقدت والدها شوقي فرّان، فتتذكر بحرقة تلك اللحظة المأسوية، فهي كانت قد توسلته قبيل صعوده الطائرة بالتراجع عن العودة عبر مكالمته هاتفياً، وكانت هذه الكلمات الأخيرة معه. وبعد ساعة فقط تلقّت الفجيعة: «لم يذهب صوته من بالي، ذهبت طفولتي لأنني أنا مسؤولة عن البيت الآن». ومي التي تدرس الحقوق حالياً، لتحاسب قاتلي والدها، تنتقد أسلوب التعاطي مع الكارثة: «ماذا يفعل المسؤولون لو وضعوا أنفسهم مكاننا؟». أما الحاجة أم أنور، التي لم يبق من ولدها رائف غدار سوى صوره وذكريات تعزّي بها نفسها، فهي تطلق صرخة عتب بوجه «نواب وشيوخ الجنوب»، الذين اكتفوا بتقديم واجب العزاء للعائلة: «عيب ما حدا سأل عن شباب الجنوب يللي راحوا؟».
الضحايا المفقودون: «ما فات قد مات»
عددٌ جديد يضاف إلى قائمة المفقودين في لبنان، فالضحايا السبع في كارثة تحطّم الطائرة لم يعثر على جثثهم حتى الآن. فبعد ثلاث سنوات على وقوع الحادثة، ما زال الغموص يلف مصير جثة رباح حلواني وحسين ترمس وعلي الطويل ومهدي هاشم وعباس حجازي وعلي جفال. وكان أهالي هؤلاء قد خضعوا لفحص الحمض النووي ولم يتبين وجود تطابق مع الجثث الموجودة في لبنان أو كوتونو، وهذا ما يعزّز فرضية وجود الجثامين في بنغلاديش. وكان من المفترض أن تتحرّك وزارة الخارجية لإرسال الأهالي إلى بنغلاديش، غير أنها لم تستجب لذلك. هذا في الوقت الذي يحترق فيه أهالي المفقودين لوعة وأسى لمعرفة مصير جثامين أولادهم، حيث قتلت المعاناة والدتي حسين ترمس وخليل جفال، اللتين انتظرتا من دون جدوى، فقررتا ملاقاة ابنيهما في عالم الموت.
ولم يعد لهنادي، أي بصيص أمل بالعثور على زوجها علي الحاج علي، معتبرة أن «ما فات قد مات»، منتقدة الأسلوب الذي تعاطت فيه الحكومة من إهمال وعدم اكتراث: «حرام هيك قضية تموت» مردفة: «ما في وزير أو نائب يهتم لأنو يلّي راحوا مش زعما».
وهكذا تبقى القضية أسيرة الإهمال. وفي الوقت الذي تصرف فيه الملايين على التحقيق بالجرائم التي ارتكبت بحق السياسيين، تبقى القضايا التي تمس شريحة كبيرة من المواطنين في طيّ النسيان، وتبقى حقوق المواطن مهدورة.