سليم العازار *
في ظلّ الانقسام الحاد الذي يشهده لبنان، يبرز موضوع المحكمة الخاصة والتحقيق الدولي في صدارة المواضيع الخلافية الغامضة. تنشر «الأخبار» في النصّ الآتي رأياً قانونياً صادراً عن احد ابرز المحامين اللبنانيين في هذا الموضوع

لا أحد في لبنان على الإطلاق يعترض من حيث المبدأ على إنشاء المحكمة الدولية، فالكل يريد بصدق وإخلاص أن يعرف من قتل الشهيد الرئيس الحريري والشهداء العشرين الذين قضوا معه، ومن حرّض على تنفيذ تلك الجريمة الفظيعة والشنعاء والمعقدة، التي تفوق بتقنيتها قدرة دولة عادية، ما لم تكن متطورة فيها أساليب الإجرام، لذلك وتبعاً لعجز السلطة والقضاء اللبنانيين عن التحرك جدياً لملاحقة الفاعلين وسائر المشتركين، كان من الواجب اللجوء الى قضاء دولي وتجهيزاته المتقدمة، لعله ينجح في القيام بهذه المهمة الصعبة جداً وشبه المستحيلة.
لكن، بعد مرور نحو سنتين على وقوع تلك الجريمة، وأكثر من سنة ونصف على مباشرة التحقيق فيها، من دون أن يتمكن المحقق الدولي، لا السابق ولا الحالي، من الوصول الى نتيجة حاسمة ـــ ومن المعروف في حقل التحقيق أنه كلما مرّ الزمن على جريمة ما صعب اكتشافها ـــ وها إن مجلس الأمن يمدد الآن مهمة المحقق ستة أشهر إضافية، وليس معلوماً إذا كان هذا التمديد هو الأخير، أم أنه سيتبعه تمديد وتمديد، الى ما لا نهاية له، علماً بأن مجلس الأمن والسلطة اللبنانية منهمكان الآن في الوقت نفسه بالإسراع في إنشاء المحكمة الدولية، مع أنه لم يصدر عن المحقق الدولي حتى هذه الساعة أي قرار باتهام أي شخص باسمه أو الظن به، إذ إن المحقق يكتفي بإصدار تقرير كل ستة أشهر، يتضمن كل ما يعتقده ممكناً أو محتملاً، على أنواعه المختلفة، تماماً كما تفعل عادة دوائر الأمن العام أو الاستخبارات، وهذا ما يشذ عما هو معمول به في حقل التحقيق القضائي، الواجب أن يبقى سرياً حتى ختامه، ثم، قاطعاً كحد السيف في نهايته لدى إصدار المحقق قراره، إما بمنع المحاكمة عن المشتبه فبه أو المدعى عليه لعدم الدليل أو لعدم كفايته، وإما بالتجريم أو الإدانة مع تقديم الأدلة التي يصلح اعتمادها لاحقاً لدى محكمة الأساس. ومن البديهي القول إن كل تلك التقارير إذا ما تحولت بحالتها الحاضرة الى قرارات، فمن المؤكد أنه لا يمكن أية محكمة محترمة أن تتوقف عندها لدى النظر فيها، ما لم تصبح عندئذٍ هي بالذات، آلة في يد مجلس الأمن ومن هو وراءه، يستعملانها للضغط على من يرغبان في الضغط عليهم وفقاً لمآربهما.
على أن الأهم من كل ذلك، والأكثر خطورة بالتأكيد، والذي لا يمكن أية دولة محترمة تدّعي أنها مستقلة وذات سيادة أن تقبله، هو أن مشروع المعاهدة بين مجلس الأمن والسلطة اللبنانية لإنشاء المحكمة الدولية، والذي لم يوافق عليه رئيس الجمهورية المنوط به خصيصاً، بوصفه رئيس الدولة، أن يجري بالتوافق مع رئيس الحكومة المفاوضات في المعاهدات الدولية، على ما أبقته له من صلاحيات المادة 52 الصريحة وغير القابلة للتأويل من الدستور المنبثق من الطائف، هو أن ذلك المشروع قد أناط بالمحكمة الدولية أن تحكم، على مدى ثلاث سنوات قابلة للتجديد، تُحتسب بالطبع من تاريخ وضع يدها على أية جريمة محالة إليها من الجرائم التي وقعت في لبنان، بدءاً من محاولة اغتيال النائب مروان حمادة حتى اغتيال النائب والوزير بيار الجميل الذي قضى شهيداً لوحدة لبنان، في وضح النهار على مقربة من مركز حزب الكتائب في جديدة المتن بعد صدم سيارته بقوة وتوقفها، وقتل مرافقه وفرار الآخر، علماً بأن عدد تلك الجرائم هو أربع عشرة على ما أظن.
وإذا ما علمنا أن الجريمة الوحيدة الجاري التحقيق فيها بنوع من الجدية هي جريمة اغتيال الرئيس الحريري ورفاقه التي لم يتمكن التحقيق الدولي حتى الآن من الوصول فيها الى نتيجة حاسمة، رغم مرور، كما سبق بيانه، أكثر من سنة ونصف على مباشرته، وقد مددت مهمة المحقق الدولي ستة أشهر إضافية، وتقديرنا أن التحقيق والمحاكمة في تلك الجريمة لن ينتهيا في أحسن الأحوال قبل سنتين أخريين.
وإذا ما علمنا أنه على افتراض أن التحقيق الدولي تمكن بعد جهد جهيد من معرفة اسم من قتل الشهيد الرئيس الحريري ورفاقه ومن حرّض على القتل وشارك أو تدخل فيه، وإذا ما أصدرت المحكمة الدولية الحكم المبرم والعادل في نهاية المطاف بعد سنتين، افتراضاً، في حق المجرمين، فإنه من غير المقبول طبعاً، قضائياً وقانوناً، أن يقال إن من ارتكب هذه الجريمة هو نفسه من ارتكب الجرائم الأخرى العديدة، بل ينبغي إجراء التحقيق والمحاكمة الدقيقين في كل منها، الأمر الذي يستغرق على الأقل مدة سنتين أو ثلاث للواحدة منها، قياساً على ما قد يمضي من الزمن على صدور الحكم النهائي المبرم بعد نهاية التحقيق في قضية الرئيس الحريري، وهو ما يعني بالتالي، أن مهمة المحقق والمحكمة الدوليين ستدوم عملياً ما لا يقل عن عشرين سنة، قابلة للتجديد، ولا نعرف كم مرة هي قابلة للتجديد.
ولو افترضنا أنه يمكن تعيين محقق دولي خاص ومحكمة دولية خاصة لكل جريمة منفردة، فإن هذا يعيد لبنان الى ما يشبه نظام المحاكم المختلطة الذي كان قائماً فيه ومختصاً بالقضايا الأكثر أهمية، في زمن الانتداب الفرنسي الذي زال سارياً منذ نحو ستين عاماً.
وإذا ما علمنا من جهة أخرى، أن الدولة المحترمة، المستقلة فعلاً وذات السيادة الحقيقية، إنما تتمثل خصوصاً وبالدرجة الأولى بقاضٍ وعسكري، وأنه إذا ما أنيط القسم الأهم من قضاء تلك الدولة بسلطة أجنبية لمدة طويلة قابلة للتجديد عموماً، وأنيط القسم الأهم من أمنها بقوة عسكرية أجنبية موجودة فعلاً على أرضها قوامها عشرة آلاف جندي، وليس معلوماً متى ستنتهي مهمتها، فماذا يبقى عندئذٍ من استقلال وسيادة لتلك الدولة؟
فهل يُلام الاستقلاليون في لبنان لمعارضتهم المحكمة الدولية بالشكل المعروضة فيه والمبيّن أعلاه، وإن هم وافقوا عليه أصلاً وبصدق، من حيث المبدأ؟
* عضو المجلس الدستوري سابقاًً