جوزف سماحة
الرئيس فؤاد السنيورة في مأزق. وجّه إليه الرئيس الأميركي جورج بوش تحيّة حارّة جداً لكنه لا يستطيع أن يرد عليه بمثلها. لا نتصوّر رئيس حكومتنا واقفاً يقول «أنا فخور جداً بجورج بوش». أقصى ما يستطيعه هو الشكر، وقد يفضّل أن يفعل ذلك سراً عبر جيفري فيلتمان.
ليس مأزقاً فحسب. إنه، أيضاً، مفارقة. ها هو رئيس أقوى دولة في العالم يقدم دعماً استثنائياً إلى رئيس حكومة بلد صغير، رئيس حكومة مطعون فيه وبلد تهدّده التوترات، ومع ذلك فإن المعنيّ بالدعم والمستفيد منه إلى الحد الأقصى مضطر، في الحياة العامة، إلى التصرّف وكأن شيئاً لم يحصل.
يعيش السنيورة، كما يعيش معتدلون عرب كثر، هذه المعضلة: الزوجة العلنية (والمضجرة) هي قضية فلسطين، لكن الصديقة السريّة (والمفضّلة) هي الولايات المتحدة الأميركية، المسؤولة الأولى، دولياً، عن استمرار نكبة الفلسطينيين والعرب. كل المحاولات لتعدّد الزيجات باءت بالفشل. لا بد من تقسيم العمل. الزوجة للعلن والمراسيم ولو أن خيانتها تحصل يومياً.
هذا إذا كان الرئيس الأميركي هو المادح. أما إذا أقدم إيهود أولمرت على ذلك وأثنى على الحكومة اللبنانية (أو أي حكومة عربية أخرى)، وأعرب عن دعمه لها، وعدائه لخصومها، وتلاقيه مع أهدافها فإن السنيورة، أو غيره، يتصبّب عرقاً. يدرك أنه أصيب في مكان ما. يعرف أن وجدانه وتاريخه ينتصبان في وجه تقديره الراهن لمصلحة لبنان والعرب. ينتبه إلى أن حاضره يسخر من ماضيه وأن ما استقرّ عليه وعيه وسلوكه هو نتيجة عجز وتعب لا ثمرة تراكم نضج.
واللافت أن مسؤولين إسرائيليين كباراً يطلبون من وزراء عدم إغداق المدائح على مسؤول عربي. وحصل أن الإدارة الأميركية تدخلت غير مرّة مع إسرائيل تناشدها الصمت متجاهلة أنها ليست أقل وطأة منها.
«يتميّز» السجال اللبناني الحالي بظاهرة مؤدّاها أن الخيانة مباحة لكن التخوين ممنوع. لنضع ذلك جانباً ولنفترض أن ما يجري هو تباين في وجهات النظر.
نلاحظ أن المعتدلين العرب واللبنانيين هم في وضع مأساوي. يمكن أن ننسب إليهم أنهم ممتلئون ثقة بعدالة القضايا العربية وعلى رأسها قضية فلسطين. كما أنهم واثقون بأن الولايات المتحدة انتقلت من دعم التفوّق الإسرائيلي إلى حماية التوسّع الإسرائيلي في اندفاعته الجديدة (رسائل بوش إلى شارون). إلا أن هؤلاء المعتدلين الحاكمين يمثّلون مصالح ترغمهم على تجنّب أي احتكاك جدي بالإدارة الأميركية. ولذا فإنهم يخترعون وهماً، ويتظاهرون بتصديقه، ويحاولون تعميمه، وهو الوهم القائل بأن الدبلوماسية هي أداة تحصيل الحقوق، وحصراً، الدبلوماسية التي تلغي أي أداة ضغط وترفض التلويح، مجرد التلويح، بامتلاك أسلحة أخرى من النفظ إلى... الجيوش.
تاريخ الصراع العربي ـــ الإسرائيلي يكذّب هذا الوهم. لم تكن كامب ديفيد ممكنة لولا حرب أكتوبر ولولا أن الدولة العربية المعنية هي مصر. ولم يكن المضي في تطبيق أوسلو نتيجة الخلل في موازين القوى. والمبادرة العربية في بيروت 2002 ولدت وبقيت في حالة موت سريري لرفض إسنادها إلى إعداد جدي يوحي بأن الاحتمال الآخر وارد. مصير ياسر عرفات معروف علماً بأنه كان الأقدر على عقد تسوية. وما حصل لمحمود عباس معروف...
منذ عقود والاعتدال العربي عاجز عن تقديم إنجاز واحد. يقود الشعوب العربية في نفق لا نهاية له وإلى هاوية لا قعر لها. لقد كان هذا الاعتدال، حتى الآن، خاوياً إلى حد بعيد، ومحروماً من نظرية تغطيه إلا تلك الجمل المبعثرة التي أطلقها أنور السادات.
لا نعرف صياغة جدية لنظرية ذات سند شعبي توائم بين «نار العدالة» و«ماء الالتحاق بالولايات المتحدة». وإذا كانت ثمة نظرية من هذا النوع فإنها من اختصاص نيو ـــ ليبراليين هامشيين ترفض الأنظمة العربية تبنيها لأنها تفلسف العجز وهذا ما لا يرضاه حاكم عربي لنفسه.
الحاكم العربي مفسوخ بين العلاقة الثنائية الجيدة مع واشنطن و«التنسيق» معها على المستوى الإقليمي وبين الاضطرار إلى الاحتفاظ بمسافة لفظية عنها. ينشر قناعات متناقضة مع السلوك الاضطراري النفعي. لذا يكون الخطاب الرسمي، في الغالب، هجيناً وفصامياً، ولذا فإنه يستطيع تقبّل المدح الأميركي من دون الرد الإيجابي عليه على مستواه وعلى مستوى العلاقة الفعلية الحميمة مع قائله.
ربما وفّر العداء للإلحاد الشيوعي وللاشتراكية مضموناً محدود الفاعلية لخطاب عربي معيّن. لكن ذلك انتهى. وليس مستبعداً أن نكون نشهد اليوم انبعاثاً لمنظومة جديدة شرعت تحفر لنفسها وتسعى إلى تحويل الأنظار نحو «الخطر الإيراني»، وهو «خطر فارسي» باللغة القومية المستحدثة، أو «خطر شيعي» باللغة المذهبية التقليدية.
نشهد في لبنان نماذج من هذا «الجديد».
ثمة «آذاريون» يتّهمون خصومهم بأنهم أداة في «المحور الإيراني». ولما ترفع في وجههم علاقتهم مع الولايات المتحدة، يسحبون سلاح «الكم»: إيران تدعمهم بالمال والسلاح أما نحن فنتلقى دعماً معنوياً وسياسياً. لا تعود وجهة الدعم مهمّة ولا صلته بقضايا المنطقة. التفاوت في الدرجة يصبح حجة.
ويعمد آخرون إلى إشهار تهمة «الفارسية» ضد «العروبة». يتهرّبون، بذلك، من تناول الصراع الواقعي، بكل تعقيداته واحتمالاته، بين إيران وأميركا من أجل أن يضعوا أنفسهم في «المحور العربي» لا «المحور الأميركي». لا ينتبه هؤلاء إلى شحنة «الصدّامية» الموجودة في هذا الخطاب وليس لهم أن ينتبهوا ما داموا يدركون مدى ارتباط مشروعهم بالحرب الأميركية لتحرير العراق من... صدّام!
يبقى أن هؤلاء، إذ يكتشفون عدواً جديداً، وإذ يحلّونه محلّ العدو الأصلي، فإنهم، هنا أيضاً، لا يصوغون سياسة جديرة بهذا الاسم، ولا يضعون خطة تصدّ، وينتظرون دعماً غربياً يحل لهم مشكلتهم.
لا يصوغون سياسة ولا خطاباً. خطابهم الجديد مزيج من الوطنية المغالية والعروبة العنصرية والمذهبية الزرقاوية والنفحة الليبرالية. لبعض الإعلام «الوطنية»، ولبعض الخطباء «العروبة»، ولبعض المشايخ «المذهبية»... وتتكفّل شركات الإعلان والعلاقات العامة بإطلاق الصرخة المدوّية: بدنا نعيش!
لا يستطيع هذا التركيب الهجين أن يقود إلى هيمنة إيجابية متماسكة. وإذا كان القمع يردم الهوّة في بلدان فإن التجاهل يفعل الفعل نفسه في لبنان. ويضاف إلى التجاهل سد منيع: إسقاط الحكومة فتنة مذهبية. يكاد ذلك يعني ذكر الطائفة على بطاقة الهوية الخاصة بالضريبة على القيمة المضافة!
لهذه الأسباب، ولغيرها، لن يستطيع السنيورة إعلان فخره ببوش. فبوش فخور بالسنيورة والسنيورة فخور بنفسه: لقد استحق مديح بوش في لحظة إدانته العدوان الهمجي الإسرائيلي على لبنان! إن في هذا «الإنجاز» مأساة الحياة السياسية العربية ومعضلة «المعتدلين العرب».