نقولا ناصيف
نقل الخلاف على العريضة التي وقّعها نواب الغالبية الحاكمة، والمطالبة بدعوة مجلس النواب إلى الانعقاد لمناقشة مشروع قانون المحكمة الدولية، «حرب اللاشرعيّات» الى محطة ثالثة هي ساحة النجمة. وبعدما تبادلها رئيس الجمهورية إميل لحود وحكومة الرئيس فؤاد السنيورة، وطعن كل منهما الآخر في شرعيته الدستورية، فإن توقيت الغالبية توجيه عريضتهم (الخميس 21 كانون الأول) أتى ليضاعف من وطأة المواجهة، وينقل لعبة الطعن المتبادل إلى مجلس النواب بالذات، الذي تملك فيه الغالبية أكثرية مطلقة. ويستعيد ذلك سابقة مشابهة إلى حدّ ما عام 1988 عندما وقعت البلاد في فراغ دستوري شبه كامل، بعدما شغر منصب رئاسة الجمهورية لتعذّر الاتفاق على خلف للرئيس أمين الجميل والحؤول دون اكتمال النصاب القانوني (الثلثين المطلوبين) للمجلس لانتخاب رئيس جديد رغم توجيه دعوة بذلك أكثر من مرة أولاها في 17 آب، وبعدما تألّفت حكومة انتقالية ترأسها قائد الجيش العماد ميشال عون في 22 أيلول رفضها فريق كبير من اللبنانيين فانقسم الداخل بين حكومة دستورية برئاسة عون وأخرى «واقعية» برئاسة الرئيس سليم الحص، وبعدما حيل دون انتخاب رئيس لمجلس النواب في تشرين الأول بسبب إحجام النواب «الشرقيين» (تبعاً للتسمية المتداولة آنذاك) عن الانضمام إلى النواب «الغربيين». وهكذا كان لبنان في ذلك الوقت بلا سلطة مركزية، وكاد أن يصبح في فوضى وانهيار دستوريين كاملين، مع أن الرئيس حسين الحسيني ظلّ رئيساً للمجلس حينذاك بحكم الاستمرار.
وقد نكون اليوم على أبواب تكرار سابقة 1988 عبر «حرب اللاشرعيات» هذه. لكن انتقالها إلى مجلس النواب يدق ناقوس خطر انهيار جدّي انطلاقاً من عريضة الغالبية التي أبرزت أكثر من ملاحظة:
1 ــــــ ليس في النظام الداخلي لمجلس النواب ما يحمل النواب على التقدّم بعريضة تطالب رئيس المجلس بدعوة المجلس إلى الانعقاد في موضوع معيّن ما خلا ما تورده المادة 137 منه عن انعقاد جلسة مناقشة للحكومة في سياستها العامة بطلب من هذه أو من 10 نواب على الأقل وموافقة المجلس. وليست هذه حال عريضة الغالبية رغم اقترانها بتوقيع الأكثرية المطلقة والتذرّع لطلبها بمبدأ غير مفهوم هو الاحتفاظ بحق الغالبية في المهل. وقد يكون المقصود بذلك استباق انتهاء العقد العادي الثاني للمجلس في 31 من هذا الشهر. في المقابل ليس ثمة ما يُلزم رئيس المجلس استجابة عريضة كهذه غير مقيّدة له ولا تتعدى كونها وثيقة سياسية. وتالياً لا تصحّ فيها الصلاحية المعطاة للنواب بالتقدّم بعريضة توقعها الغالبية المطلقة تطالب رئيس الجمهورية بفتح عقد استثاني للمجلس تبعاً للمادة 33 من الدستور. وهي عريضة ملزمة للرئيس شرط تحديد مواعيد افتتاح العقد واختتامه وبرنامجه، حتى إذا أخلّت بهذا الشرط استطاع رئيس الجمهورية أن يكون في حلّ من إصدار مرسوم العقد الاستثنائي. والأحرى أنه سيفعل إذا أقدمت الغالبية في كانون الثاني المقبل على خطوة كهذه، متذرّعاً هو الآخر بتوقيع رئيس حكومة يرى أنها غير دستورية أو بمشروع المحكمة الدولية المخالف كذلك، بالنسبة إليه، للأصول المتّبعة في التشريع.
وهكذا، ليس لعريضة الغالبية سوى طابع التمني أو تكون ذات صفة رجائية فتُطرَح على بري ويكون هو سيد خياره، لا أن تكون نافذة هواء بارد بين الغالبية وبري.
2 ـــــــ للنواب، بحسب المادة 101 من النظام الداخلي للمجلس، التقدّم باقتراح قانون، على ألا يوقعه أكثر من 10 نواب. الأمر الذي لا ينطبق على العريضة لأسباب شكلية كونها عريضة وقد وقعها أكثر من 10 نواب، وأخرى جوهرية لأن ليس للنواب التقدّم باقتراح قانون في موضوع يتعلق بفريق ثالث غير الدولة اللبنانية كالأمم المتحدة من خلال مشروع قانون المحكمة الدولية. بل في واقع الأمر فإن مسؤولية كهذه منوطة بالسلطة الإجرائية، وتالياً يشرّع النواب في مواضيع ترتبط بعلاقتهم هم بالحكومة اللبنانية وليس بدولة أخرى. ويشير ذلك إلى تعذّر تعديل الطبيعة القانونية لمشروع المحكمة كأن يصار إلى تبنّيه كاقتراح قانون يحال على رئيس المجلس كي يحيله بدوره على الهيئة العامة.
3 ــــ أن ردّ فعل دوائر المجلس على العريضة أعطى أصحابها ذريعة للتشكيك وتوجيه حملة ضد رئيس المجلس الذي كان عليه، ربما، سلوك مسار آخر يؤدي إلى النتيجة التي يتوخاها في مقاربته عريضة الغالبية، أي ردّها. وهو الذي تنيط به المادة 5 من النظام ان يرعى في المجلس أحكام الدستور والقانون والنظام الداخلي. وذلك بتسلم العريضة وبعد ذلك اصدار قرار فوري يعلل أسباب ردّ العريضة على النحو الذي غالباً ما اتبعه بري في أحوال مشابهة. ومنها ردّه أكثر من مرة مرسوماً لم يوقعه الوزراء المختصون لعدم استيفائه الأصول الدستورية والقانونية في الاحالة. وهي حال عريضة تطالب بجلسة عامة للمجلس في مشروع لم يُحل بعد على المجلس وفق الأصول الدستورية للإحالة.
4 ــــ إن نشر مشروع المحكمة الدولية في الجريدة الرسمية (14 كانون الأول) لا يجعله نافذاً بالضرورة ما لم يقترن بموافقة مزدوجة لرئيس الجمهورية ورئيس الحكومة على إبرامه تبعاً للمادة 52 من الدستور. ولا يعدو هذا النشر كونه عملاً دعائياً يعبّر عن رغبة الغالبية في هجوم وقائي لمواجهة مأزق دستوري وسياسي معقّد سلّمت بعجزها عن تخطيه. وفي معزل عن موقفه من دستورية حكومة السنيورة أو عدم دستوريتها، وهو في واقع الأمر يصرّ على عدم دستوريتها، فإن رئيس المجلس يقبض على صلاحية فوّضتها إليه الأصول المنصوص عليها في الدستور والنظام الداخلي لمجلس النواب بعدم تسلّم مشروع قانون غير مرفق بمرسوم إحالة وقعه رئيس الجمهورية. وهو اختصاص محصور بالرئيس استناداً إلى المادة 53 من الدستور التي تخوّله وحده إحالة مشاريع القوانين من مجلس الوزراء على مجلس النواب. وتالياً ليس لرئيس الحكومة صلاحية إحالة كهذه مباشرة، أو بالواسطة عبر الجريدة الرسمية التابعة لدوائر رئاسة مجلس الوزراء. علماً أن نشر القوانين في الجريدة الرسمية يرمي إلى إعلام «الجمهور» بنفاذها. وبالتأكيد ليس هذا هو المقصود من نشر مشروع المحكمة الدولية في الجريدة الرسمية الأسبوع المنصرم: لا مجلس النواب يتبلّغ على نحو كهذا، ولا الأمم المتحدة تتبلّغ ـ كالجمهور ـ بالطريقة نفسها (وقد تطلّب مجلس الأمن مهر المشروع بمصادقات المؤسسات الدستورية المعنية)، ولا مشروع المحكمة الدولية أضحى في صيغته النهائية كي يأتي نشره في الجريدة آخر محطات مسيرته إيذاناً بوضعه موضع التنفيذ. بل لعلّ ما يصحّ قوله في مشروع المحكمة الدولية إنه عالق بين السماء والأرض: لا تلك أعطته رحمة العبور، ولا هذه ألقت عليه تراب المواراة.
«حرب اللاشرعيّات» هي هذه، أم سجال غرائزي بدأ يُنشب أظفاره في الأطراف الذين يخوضون صراعاً على السلطة أولاً وأخيراً؟