إبراهيم الأمين
عود على بدء في ما خص التحقيق الجاري في جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري؟
فجأة أظهر سيرج براميرتس غيظه مما يجري. وقبل أن يحصل على موافقة الأمين العام على التمديد له ستة أشهر جديدة، أعرب عن أمله إقفال الملف وعودته هو الى عمله السابق في لاهاي. حاول كوفي أنان إقناعه قبل أن يلفت انتباهه الى أن خروجه الآن سوف يؤدي الى جملة نتائج سلبية دفعة واحدة: التحقيق سوف يصاب بنكسة لأن النتائج المطلوبة لم تتحقق بعد. والمسار القائم الآن سوف يتعرض للتغيير من جديد. والفريق الذي عمل منذ سنة حتى الآن سوف يغادر دون أن يحقق استراتيجيته. وديتليف ميليس سوف يعود وفريقه الى قيادة لجنة التحقيق. كانت الإشارة الأخيرة كافية لكي يقبل براميرتس البقاء وإن وضع بعض الشروط وأهمها عدم الضغط عليه في أي اتجاه، وترك الجوانب التقنية له. ثم سارع الى إثارة الأمر الأكثر حساسية بالنسبة إليه وهو المتعلق بالحملات التي يتعرّض لها من جانب ميليس وفريقه، والتي كادت أن تبلغ ذروة معيّنة لو خرج الأخير من على شاشة “المؤسسة اللبنانية للإرسال” وقال ما لديه من ملاحظات. علماً بأن الأخير قال ما يريد قوله في أكثر من مكان وهو يستعد لقول المزيد في الفترة المقبلة.
في ملف التحقيق أيضاً ما هو جديد بالنسبة إلى أمور تتصل بالموقوفين، وهو العنوان الذي يثير حفيظة فريق السلطة الذي لا يهمه كون الضباط على صلة فعلية بالجريمة أو لا، بقدر ما يهمه أن يبقى هؤلاء في السجن، ويصرخ قادة السلطة من سعد الحريري الى وليد جنبلاط الى سمير جعجع وبقية الصغار المتحلقين حولهم، صبحاً ومساءً، بأن بقاء الضباط في السجن أمر ضروري وورقة ابتزاز سياسية بوجه الآخرين، وهو الأمر الذي يصيب مباشرة الفريق القضائي اللبناني، وخصوصاً أن مبدأ تأليف لجنة تحقيق دولية ثم السعي الى قيام محكمة دولية فيه ما يكفي من الطعن بالقضاء اللبناني، لأنه يعبّر عن انعدام للثقة أو عن عدم الرغبة في جعل القضاء في لبنان قادراً على بت الأمور كما يجب. وهو الذي ينعكس في حالة التحقيق اللبناني في جريمة اغتيال الرئيس الحريري مباشرة على اثنين: النائب العام التمييزي سعيد ميرزا والمحقق العدلي القاضي الياس عيد.
اليوم عطلة، وغداً يُفترض أن يجيب المحقق عيد عن طلب وكلاء دفاع الموقوفين بإخلاء السبيل. وهو أخذ وقته منذ صدور تقرير لجنة التحقيق الأخير، حتى يعيد النظر في الملفات وما اذا كان هناك من جديد. ويقرأ الملف الخاص بالشاهد محمد زهير الصديق كما ورده من القاضي براميرتس، لأن لإفادات هذا الرجل الأثر الكبير على وضع الضباط الأربعة. وبرغم ان في فرق التحقيق كافة من يقول إن كلاً من اللواء علي الحاج والعميد مصطفى حمدان يتحمّل “مسؤولية ما” في ما خص مسرح الجريمة ومواكب الحماية الرسمية الخاصة بالحريري، فإن الشكوك التي جرى التحقيق فيها في ما خص أعمال المراقبة التي قيل إن مخابرات الجيش اللبناني قامت بها بطلب من مديرها العام العميد ريمون عازار، تراجعت بقوة دون أن تتعطل كلياً. لكن الجديد كان في ما خص اللواء جميل السيد الذي اتهم أولاً بأنه يقف وراء شريط أحمد أبو عدس. ثم إنه تولى التحريض الكلامي ضد الحريري وإن بعض الشهود نقلوا عنه قوله أمامهم إن الحريري مصيره الموت إن لم يغيّر من سياسته، وصولاً الى اتهامه بإنشاء صندوق مالي في الأمن العام كان يموّل أنشطة سرية وأنه استُخدم في تمويل عملية اغتيال الرئيس الحريري. وتبيّن من كل التحقيقات التي جرت خلال المدة المنصرمة أنه ليس هناك أي عنصر في هذه الملفات يمكن استخدامه لإدانة الرجل. أضف الى ذلك تهاوي رواية الشاهد الصديق التي أبطلتها تحقيقات الأدلة الجنائية ومعلومات الشهود والتحقيقات التي أُجريت لناحية الاجتماعات والمواعيد وخلاف ذلك من الروايات. كذلك تمّ إبطال أمور أخرى تتصل بدور مزعوم للسيد في كل ما يتصل بالجريمة من نواحي التخطيط أو التنفيذ أو إزالة الآثار.
عدا عن ذلك، فإن كشف السيد للمحققين الدوليين وللقضاء اللبناني عن المفاوضات السرية التي كان ميليس ونائبه غيرهادر ليمان يجريانها معه قبل توقيفه وبعده، دلّ على ثغرة في عملية التوقيف. وهو الأمر الذي عاد ميليس لاحقاً ليبرره بالقول إن التوقيف تم لأسباب تتصل بتكتيك التحقيق، وإن الظروف التي جرى فيها التوقيف تبدلت، علماً بأن براميرتس رفض أصلاً التوصية ورأى أنّها غير شرعية، وهو رفض في المقابل إعطاء توصية مضادة ووجد أن بالإمكان الاستغناء عنها من خلال تقديم ملف المعلومات الذي يشير الى عدم وجود علاقة للسيد بالجريمة.
لكنّ الملف عاد الى يد القضاء اللبناني، وقال براميرتس صراحة إن مصير الموقوفين بيد السلطات القضائية اللبنانية حصراً. وبعد الملف الذي قدّمه وأشار إيه في الفقرة 96 من التقرير الأخير فإن الأمر برمّته عاد الى القاضي عيد الذي درس الملف وأحاله الى النائب العام لإبداء الرأي، وسط “انطباعات سياسية” بأن احتمال إخلاء السبيل ضعيف. وأن الأمر يرتبط بضغوط سياسية من جانب فريق السلطة ومن جانب الولايات المتحدة وفرنسا. لكن مرجعاً قضائياً معنياً يقول إنه يرفض هذا الاستنتاج كما يرفض اعتبار رد الطلب أمراً حتمياً. لكنه يشير الى أن اللجنة الدولية لا تقدر على بت الأمر وكأن القضاء اللبناني لا يعمل، وأن الاستجابة للتوصية الأولى التي صدرت عن ميليس كانت مرتبطة أيضاً بما توافر لدى القضاء اللبناني من معلومات، وأنه حصل أن طلب من القضاء اللبناني توقيف كل من المدير العام لرئاسة الجمهورية العميد سالم أبو ضاهر والمدير العام في وزارة الأشغال فادي النمار. لكن القضاء اللبناني لم يجد ما يبرر هذه الخطوة ولم يتم توقيف أي منهما، كما حصل أن أطلق سراح موقوفين بعدما أظهرت التحقيقات عدم وجود ما يبرر استمرار توقيفهم.
إلا أن هذا المنطق يبقى محل تساؤل إذا لم يقدم القضاء اللبناني على تبرير خطوته اللاحقة، فإذا تقرر إبقاء التوقيف يجب إبراز ما يبرره بعد كل هذه المدة، علماً بأن الجميع يطالب بإظهار هذه الأدلة منذ اليوم الأول، وليس انتظار سنوات أخرى، وخصوصاً أن هناك في السلطة من يقول الآن: “لن يخرج هؤلاء وسوف ينقلون مع ملفاتهم الى المدعي العام في المحكمة الدولية ولن يصدر عن القضاء اللبناني ما يخالف هذا التوجه”.