نقولا ناصيف
على غرار ما يقول به بعض المعارضة، يرسم مسؤول بارز في الغالبية الحاكمة صورة قاتمة للأسابيع الأولى من السنة الجديدة. لا يتوقع مبادرة سياسية مجدية بعد إخفاق صارخ لمبادرة الأمين العام للجامعة العربية عمرو موسى، ولا يعتقد أن في وسع أي فريق لبناني امتلاك زمام حل سياسي، نظراً لتعارض الشروط المتبادلة بين الأفرقاء اللبنانيين، والتجاذب الحاد بين المصالح الإقليمية على أرض لبنان. وتقود الصورة القاتمة المسؤول البارز في الغالبية إلى تخوّف من انهيار اقتصادي سيكون، ربما، ملازماً لانهيار السلطة المركزية، مع تسليمه بأن حكومة الرئيس فؤاد السنيورة ستظل متمسّكة ببقائها دستورية، وقادرة على التحرّك من ضمن صلاحياتها الدستورية: تتخذ قراراتها وتستند في نهاية المطاف إلى المادة 56 من الدستور لإنفاذها إذا تمنّع رئيس الجمهورية عن توقيعها، وتحجم عن إرسال مشاريع قوانين إلى مجلس النواب ما دام الرئيس إميل لحود يرفض إقرانها بمراسيم إحالة يوقّعها، وما دام رئيس المجلس نبيه بري يمتنع عن تسلّم هذه المشاريع وتحديد موعد لالتئام البرلمان. وهكذا تحكم الحكومة بما تمكّنها صلاحياتها الدستورية من إمراره وتحقيقه في علاقاتها بالمسؤولين الأمنيين والوزارات والإدارات.
إنها صورة مأزق مطبق على الجميع ويعطّل العمل المتوازي للمؤسسات الدستورية.
لكن المسؤول البارز في الغالبية يُدرِج الإطار الذي يوجّه مواقف هذه ويضع من حولها خطوطاً حمراً في المعطيات الآتية:
1 ــــــ تنفتح الغالبية على إعادة قراءة مشروع المحكمة الدولية في اغتيال الرئيس رفيق الحريري انطلاقاً من مناقشة مجدية وموضوعية للبنود المثيرة للجدل، وتعتقد أن أي صيغة تعديلات يقبل بها الطرفان تقتضي أن تذهب إلى مجلس النواب للمصادقة عليها ما دام قد تم التفاهم عليها، لا العودة بها إلى السلطة الإجرائية أكانت حكومة الوحدة الوطنية أم سواها.
2 ــــــ لا ترى الغالبية حتى الآن مبرراً لإصرار المعارضة، و«حزب الله» تحديداً، على رفض البند الوارد في مشروع المحكمة الدولية المتعلق بعلاقة المرؤوس بالرئيس، وخصوصاً أنه لا يمس الحزب ولا المقاومة، ولا يُخضع أياً منهما لأحكامه، نظراً إلى أن واقع المقاومة والأحزاب لا تسري عليه الأحكام المطبقة على مسؤولين في الدولة. تالياً يرى المسؤول البارز في الغالبية أن «حزب الله» يرفض البند الذي ترفضه سوريا، ويخوض نيابة عنها، في لبنان وضد فريق واسع من اللبنانيين، معركة إسقاط هذا البند من غير أن يكون هو بالذات هدفاً له.
أضف أن الغالبية على استعداد كي تُقدّم للحزب كل الضمانات التي من شأنها طمأنته إلى إخضاع بنود المحكمة لقانون أصول المحاكمات الجزائية في المثول أمامها، فلا تُستعاد في المحكمة الدولية أحداث انقضت قبل سنوات لا علاقة لها باغتيال الحريري، ولا يُدعى مسؤولو الحزب إلى الشهادة من أجل تسييس الموقف من الحزب، إلا إذا كانت ثمة معلومات موثوق بها تجعل من شهادتهم هذه نافذة لكشف حقائق في جريمة اغتيال الرئيس السابق للحكومة. وبحسب المسؤول ذاته، يبدو الحزب واجهة الدفاع عما تعجز دمشق عن تبرير علاقتها به، وهو وجود اشتباه سياسي وقضائي دولي بدورها في اغتيال الحريري، وكذلك في الجرائم والتفجيرات الـ14 التي سبقته أو تلته.
3 ــــــ ترى الغالبية أن البندين اللذين تتمسّك بهما، وهما علاقة المرؤوس بالرئيس وإدخال الجرائم والتفجيرات الـ14 في التحقيق الدولي، يقعان في صلب مشروع المحكمة الدولية لأن من شأنهما أن يقودا في مراحل التحقيق إلى كشف الجناة في اغتيال الحريري والشخصيات السياسية والإعلامية التي شملها الاغتيال أو محاولة الاغتيال. لكن الغالبية ترى أن أي مواقف تتصل بآلية عمل المحكمة الدولية، وتحديداً الضمانات المتصلة بقانون أصول المحاكمات الجزائية، لن تتردّد في تقديمها للفريق الآخر رغبة منها في حصول إجماع وطني على إقرار مشروع المحكمة الدولية ووضع قواعد تطبيق العدالة في لبنان موضع التنفيذ.
4 ــــــ إلى إصرارها على ربط الجرائم والتفجيرات الـ14 بالتحقيق الدولي اعتقاداً منها بأن ثمة خيوطاً متشابكة تؤول إلى كشف أكثر من حقيقة مرتبطة بالجريمة الأمّ، ترى الغالبية أن أي إعادة نظر في هذا البند هي ملك مجلس الأمن الذي كان قد أصدر في 15 كانون الأول 2005 قراراً رقمه 1644، بعد ثلاثة أيام على استشهاد النائب جبران تويني، تبنى فيه مطلب الحكومة اللبنانية التوسّع في نطاق التحقيق الدولي وشموله الجرائم والتفجيرات تلك، ووجد ثمة صلة وصل سياسية على الأقل بين اغتيال الحريري والجرائم والتفجيرات التي سبقته أو تلته، كما أن هذا الترابط دخل في متن التقارير الدورية للجنة التحقيق الدولية مع رئيسها الأول ديتليف ميليس ثم مع خلفه سيرج براميرتس الذي أعاد في تقريره الأخير في 12 كانون الأول 2006 تأكيد هذا الترابط في الفقرتين 114 و116 سواء لصلة كل من الجرائم والتفجيرات الـ14 بعضها ببعض، أو علاقتها باغتيال الحريري.
5 ــــــ ترى الغالبية أن حدود المسؤولية والتنازل اللذين تستطيع التراجع عنهما بحثاً عن تسوية سياسية مقبولة مع المعارضة، تقف عند الصيغة التي اقترحها السنيورة قبل مبادرة الجامعة العربية وأعاد تأكيدها إبانها، والقاضية بتخلي الغالبية عن ثلثي مقاعد مجلس الوزراء في حكومة الوحدة الوطنية من دون إعطاء الطرف الآخر الثلث زائداً واحداً فيه.
ويكمن مغزى الاقتراح ـــــ وهو يشكل سابقة نافرة وغير مألوفة في الحياة الدستورية والسياسية اللبنانية ــــــ أنه يعطّل في آن واحد فاعلية الثلثين المقرّرين والثلث المعطّل. وخلافاً لما نصّ عليه الدستور في المادة 65 عندما تحدّث عن وجود ثلثين من أجل التصويت على مواضيع اعتبرها الدستور أساسية وتتطلّب موافقة نصاب موصوف ــــــ وهو بذلك يقرّ صراحة بطبيعة دستورية قائمة للثلثين المقررين ـــــ فإن المادة 69 تتحدّث عن الثلث زائداً واحداً في سياق تحديد ست حالات تعتبر الحكومة مستقيلة إذا توافرت إحداها، ومن هذه استقالة «أكثر من ثلث» أعضاء الحكومة تبعاً لمرسوم تشكيلها. وأضحى الاستخدام السياسي والدستوري لهذا الامتياز في وجهة منحه لفريق يجعله يملك حق النقض في مجلس الوزراء، على نحو مشابه للامتياز الآخر لدى فريق آخر يملك ثلثي مقاعد مجلس الوزراء ويسيطر عبرهما على قرارات السلطة التنفيذية. فكيف إذا اجتمعت هذه المقاعد في فريق واحد أو في ائتلاف قوى سياسية.