أنطوان سعد
لا يذكر السياسيون المخضرمون في لبنان أن رئيس الجمهورية تغيّب عن الاحتفال بقداس الميلاد في كنيسة الصرح البطريركي، باستثناء عام 1989 عندما كان متعذراً على الرئيس الياس الهراوي الوصول إلى بكركي. لقد أراد الرئيس العماد إميل لحود، من خلال التغيب عن قداس الميلاد الأخير من عهده، التعبير عن استيائه من موقف البطريرك الماروني مار نصر الله بطرس صفير الذي طرح موضوع الانتخابات الرئاسية المبكرة في ورقة ثوابت الكنيسة المارونية ومن الرسالة التي نقلها إليه النائب البطريركي العام المطران رولان أبو جودة. وربما أراد تفادي موقف بطريركي مشابه لموقف سيد بكركي في عظة عيد الميلاد في العام الماضي عندما دعاه إلى التفكير في ما إذا كان استمراره في رئاسة الجمهورية مفيداً للوطن ولموقع الرئاسة الأولى.
لا بد من الإشارة بداية إلى أن البطريرك صفير يرمي في كل مواقفه إلى الحفاظ على كرامة الرئيس إميل لحود شخصياً وعلى هيبة موقع الرئاسة تماماً كما يحرص على كرامة كل مسؤول وهيبة كل المواقع والمؤسسات الدستورية. وهو بذلك ينطلق ويحافظ على ثوابته التي درج عليها مذ تسلّم قيادة الكنيسة المارونية قبل أكثر من عشرين عاماً بأن يتعامل بكل دقة وموضوعية مع الحكام والممسكين بالسلطة من غير أن يغفل عن الدفاع عن الخير العام وحقوق المواطنين وفي مقدمها الحق في القرار الحر وصيانة السيادة الوطنية. وقد كلفته مواقفه هذه الكثير من الإشكالات مع الرؤساء الياس الهراوي واميل لحود ورفيق الحريري في السنوات التالية لاتفاق الطائف. وكان رئيسا الجمهورية المذكوران يعبّران عن امتعاضهما من مواقف سيد بكركي عبر المشاركة في قداس الميلاد من غير طلب عقد خلوة مع البطريرك صفير على رغم أنه لم يبد يوماً رغبة في عقد مثل هذه الخلوة وإنما كان يستجيب لها بطيبة خاطر على رغم عدم رضاه على أدائهما في زمن الهيمنة السورية على لبنان.
هذه السنة ذهب رئيس الجمهورية إلى حد الامتناع حتى عن المشاركة في القداس. وبحسب المتداول، فإن السبب يعود بالدرجة الأولى إلى الرسالة الشفوية التي حملها إليه المطران أبو جودة الذي بلباقته المعهودة ودبلوماسيته المميزة لفت نظر الرئيس لحود إلى ضرورة البحث عن حل يخرج البلد من حال الجمود القاتلة بحيث يبادر رئيس الجمهورية بنفسه إلى اقتراح متكامل يحمل في طياته استعداداً للاستقالة. فيتحول الرئيس لحود بذلك من نقطة خلاف يتخاصم حولها اللبنانيون إلى عنصر جامع يخترع الحل الذي يعجز الوسطاء المحليون والإقليميون عن إيجاده ويُخرج البلد الذي تُعتبر بكركي أمّه من الأزمة الخطيرة التي يجتازها والتي يرجح أن يبقى فيها إلى حين نهاية العهد الحالي إذا ظل الحل مفقوداً.
لكن الرئيس لحود استاء من الطرح وأنهى الحديث بتأكيد التزامه الدستور. ويقول القريبون من رئيس الجمهورية إنه ممتعض لأنه رأى أن الرسالة تمثّل إمعاناً في تهميش رئاسة الجمهورية في وقت تسعى فيه كل مرجعية دينية إلى الدفاع في شكل مستميت عن الموقع الدستوري الذي يشغله ابنها.
بيد أن من يعرف البطريرك صفير يعلم أنه لا يرى الأمور من هذه الزاوية. فتاريخه يشهد له بأنه لا يقدم اعتباراً على مقتضيات الوحدة الوطنية، والمثال الأبرز على ذلك، موقفه من حكومة الجنرال ميشال عون سنة 1988 على رغم موقفي مفتي الجمهورية الشيخ حسن خالد ونائب رئيس المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى الشيخ محمد مهدي شمس الدين من حكومة الرئيس سليم الحص. يومذاك استاء العماد عون وأنصاره من عدم اعترافه بحكومته الانتقالية وكان رد سيد بكركي «كيف أنحاز إلى طرف والبلد مقسوم؟».
اليوم البطريرك الماروني لا يزال عند موقفه بوجوب عدم مقاطعة رئيس الجمهورية وعدم إسقاطه في الشارع. ولا يزال يتعامل معه بالطريقة نفسها التي تعامل معه فيها غداة تمديد ولايته الذي كان أبرز معارضيه. غير أنه ليس مستعداً لأن يدفع المسيحيون وموقع الرئاسة ثمن تغطية وجود الرئيس لحود في قصر بعبدا في وقت لا يبدو فيه اللبنانيون راغبين في ذلك. فحتى رموز المعارضة الذين يدافع عنهم رئيس الجمهورية بقوة لا يظهرون تمسكهم ببقائه. فهم يتداولون في الانتخابات الرئاسية المبكرة ويقابلون المسؤولين الدوليين الذين يقاطعون رئيس الجمهورية من دون مشكلة، ومعظمهم لا يطأ أرض قصر بعبدا. فلماذا إطالة عهد لا يريده أحد ولا دور للمسيحيين فيه؟.