نقولا ناصيف
للمرة الأولى في تاريخ لبنان المستقل تُرفع عريضة نيابية تطلب اتهام رئيس الجمهورية بخرق الدستور. قبل اليوم، وقبل صدور قانون أصول المحاكمات أمام المجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء في 23 آب 1990، طاول الرؤساء المتعاقبين اتهامهم بالفساد وفتح أبواب الوزارات والإدارات لأنصارهم، شأن ما قيل في بشارة الخوري وكميل شمعون وسليمان فرنجية. واتهم آخرون بالتحايل على الدستور من أجل تعديله لهدف شخصي يناقض روح الدستور هو تجديد الولاية الرئاسية وإن من ضمن الآلية الدستورية للتعديل، كبشارة الخوري والياس الهراوي وإميل لحود. ثلاثة رؤساء فقط لم يتناولهم التشهير بالفساد ولا بالإساءة إلى الدستور هم فؤاد شهاب وشارل حلو والياس سركيس للسبب الذي غالباً ما كان شهاب يقول به، ثم صار يكرّره من بعده عميد الكتلة الوطنية ريمون إده، أن رئيس الجمهورية المنتخب ينبغي أن يتمتع بإحدى ثلاث صفات أو بالثلاث معاً كي يكون رئيساً فاضلاً ونزيهاً وموثوقاً به: عازب، أو متزوج بلا أولاد، أو لا أقارب له ولا حزب ولا أزلام (والصفة الأولى تنطبق على ريمون إده شخصياً).
كانت الصفات هذه تنطبق على الرؤساء الثلاثة الراحلين. قيل في طريقة إدارة كل منهم الحكم كثير من المآخذ والانتقادات والاتهامات حتى، ولكنهم خرجوا من السلطة نظيفي السمعة.
ثمة صنف ثالث من الرؤساء لاكت الألسن علاقته بالفساد وإهدار مال عام هو الرئيس أمين الجميل، عندما شنّت الغالبية النيابية المنبثقة من انتخابات 1992 والحليفة لدمشق، بتحريض مباشر من هذه، حملة على الرئيس السابق الذي كان مناوئاً تلك الانتخابات وحمل حزب الكتائب على مقاطعتها، بأن فتحت عام 1993 ملف صفقة طوافات «البوما» الفرنسية التي كان الجميل قد أبرمها عام 1983. وتألفت على الأثر لجنة تحقيق برلمانية ذات صلاحيات قضائية لكشف ما ذُكِر حينها عن عمولة غير قانونية تجاوزت 8 ملايين دولار جراء تلك الصفقة، إلى أن طُوي التحقيق نهائياً عام 1995، وحفظته النيابة العامة التمييزية حتى الساعة في أدراجها من غير التوصل إلى أدلة وقرائن عن وجود عمولة غير قانونية، وكاد يذهب قائد سابق للجيش هو العماد ابراهيم طنوس كبش محرقة محاكمة سياسية، بقشور أخلاقية، كانت دمشق تريد منها منع الجميل من العودة إلى لبنان تحت طائلة توقيفه. أُقفِل الملف عندما تأكد أن المجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء هو الذي يحاكم رئيس الجمهورية السابق لا القضاء العادي. ولم يثبت ضلوع الجميل.
أما الصنف الرابع من هذه السلسلة، الأكثر مدعاة للسخرية السياسية، فكان محاولة اتهام الرئيس إميل إده عام 1944 بالخيانة العظمى على أثر قبوله بمنصب عيّنه فيه الانتداب الفرنسي رئيساً للدولة صباح 11 تشرين الثاني 1943 بعد اعتقال الجنود الفرنسيين رئيسي الجمهورية والحكومة وعدداً من الوزراء، وزجهم في معتقل في قلعة راشيا. لم يغفر الشيخ بشارة لخصمه اللدود في زعامة الطائفة والسلطة تصرّفه، وراكم يومذاك سني الثأر السياسي بين الرجلين. وبتحريض من هنري فرعون ونواب دستوريين كإميل لحود «الكبير» جرت محاولة في جلسة مجلس النواب يوم 31 آذار 1944 لاتهامه بالخيانة العظمى وإحالته على المحاكمة، ولم يكن ثمة مجلس أعلى لمحاكمة الرؤساء، قبل أن يتدخّل البطريرك الماروني مار أنطون بطرس عريضة والرئيس رياض الصلح صديق الشيخ بشارة: الأول منع سابقة محاكمة رئيس ماروني بتهمة خطيرة كهذه، وقد تشعّبت مسألة التبريرات السياسية والأخلاقية التي حملت إده على قبول تعيينه رئيساً في ظل اعتقال أركان الدولة. والثاني منع الغالبية النيابية من الاندفاع في هذا الإجراء بأن اقترح مخرجاً مخففاً قضى بفصل الرئيس السابق من عضوية مجلس النواب بقرار أيده 35 نائباً.
اليوم يُفتح باب جديد هو طلب اتهام رئيس الجمهورية بخرق الدستور استناداً إلى رفضه توقيع مرسوم إجراء انتخاب فرعي في دائرة المتن خلفاً للنائب والوزير الشهيد بيار الجميل عملاً بالمادة 41 من الدستور.
فإلى أين من ذلك؟
على غرار أكثر من عريضة تبنتها الغالبية الحاكمة، تارة بإعلان بعض نوابها أنهم أرغموا على التمديد للرئيس الحالي عام 2004 تحت وطأة تهديد سوريا لهم بالقتل، وطوراً بطلب تنحي رئيس الجمهورية بسبب لاشرعية الولاية الثانية المتعارضة والقرار 1559 والارادة الشعبية، وتارة ثالثة بـطلب عقد جلسة عامة لمجلس النواب للمصادقة على مشروع المحكمة الدولية، فإن العريضة الجديدة لا تتعدّى كونها، في ظل توازن القوى السياسي القائم حالياً في الشارع وفي السلطة، موقفاً سياسياً تتجمّد عنده مفاعيلها، وذلك لأسباب بديهية، منها:
ـــــ انتهاء العقد العادي الثاني لمجلس النواب بعد أربعة أيام، في 31 كانون الأول الجاري، من دون أن يكون قد تسنّى للمجلس الانعقاد لبدء مناقشة طلب الاتهام، تبعاً للمادة 22 من قانون أصول المحاكمات أمام المجلس الأعلى.
ـــــ توقع رفض لحود إصدار مرسوم بفتح عقد استثنائي للمجلس بعريضة توقعها الأكثرية المطلقة من الندوة النيابية ـــــ وهي أكثرية الغالبية ــــــ وفق المادة 33 من الدستور للسبب نفسه الذي يستمر رئيس الجمهورية في التذرّع به، وهو أن الحكومة الحالية فاقدة الشرعية الدستورية والوطنية، وليس لرئيسها فؤاد السنيورة أن يشترك في توقيع مرسوم العقد الاستثنائي لانتفاء صفته الدستورية، وفي انتظار تأليف حكومة جديدة.
ـــــ أن رئيس المجلس يتخذ من الوضع «غير الدستوري» لحكومة السنيورة، منذ استقال منها الوزراء الشيعة الخمسة في 11 تشرين الثاني، مبرّراً لعدم دعوة البرلمان إلى الانعقاد. وهو سيكون بعد 31 كانون الأول طليق الموقف في عدم دعوة المجلس إلى الالتئام ما لم يتسلّم من رئيس الجمهورية مرسوماً بفتح العقد الاستثنائي. والواضح أن موقف بري يُضعف من فاعلية العريضة إذا لم تقترن هذه بوضع طلب الاتهام موضع التنفيذ من خلال تأليف لجنة تحقيق في هذا الاتهام.
ــــــ أن الآلية الطويلة والمضجرة، ربما، للوصول إلى المحطة الأخيرة في مسار اتهام رئيس الجمهورية بإحدى علتي الخيانة العظمى وخرق الدستور تستغرق وقتاً من شأنه أن يتجاوز ما بقي من ولاية لحود، فيما تأمل الغالبية من المضي في عريضتها تقليص الولاية هذه ومنع الرجل من الاستمرار في منصبه. إذ بطبيعة الحال، وحسب التقليد اللبناني على امتداد العقود الستة الأخيرة، لم يسبق أن حوكم رئيس للجمهوريــــــة خرج من سدة الرئاسة. وفي الغالب بُني معظم انتخابات رئاسة الجمهورية على التنديد بسمعة الرئيس الموشكة ولايته على الانقضاء والتشهير السيـــــاسي به كإحدى مراحل الحمـــــلة الانتخابية لتلميع صورة الخلف الذي ما أن يصل ــــــ وهو في معظم الأحيان خصم السلف ــــــ حتى يقلب صفحة الاتهام وطلب المحاكمة كي لا يُدوّن سابقة تطاوله هو في نهاية الولاية.