جان عزيز
مع تقديم العريضة النيابية لاتهام رئيس الجمهورية بخرق الدستور، ومع مرور أسبوع كامل على سقوط المهل القانونية لهذه الانتخابات، وخصوصاً قبل يومين من ذكرى مرور 40 يوماً على استشهاد بيار الجميّل، تتضح أكثر فأكثر تداعيات تلك الجريمة في إطار حلقات ثلاث متراكبة، «جميّلياً»، وكتائبياً ومسيحياً، مع ما للمستويات الثلاثة من انعكاس مباشر على الصعيد الوطني العام.
حلقة العائلة تبدو الأكثر تماسكاً في مواجهة الحدث، وبالتالي الأقل تضرراً، رغم روع الجريمة. والواضح أن الفضل الأول في ذلك يعود إلى الدور الذي لعبه الرئيس أمين الجميل على هذا الصعيد، لحصر الهفوات والانفعالات، ومحاولة قطع الطريق على بعض التوريطات والاستدراجات. إلا أن هذا المستوى من رد التحدي داخل إطار العائلة، لم يبلور بعد مسألة حساسة، هي مستقبل الابن الثاني لرئيس الجمهورية السابق، سامي الجميّل، لجهة موقعه بين الحركة السياسية التي كان ساهم في إطلاقها قبل أسابيع، «حلف لبناننا»، وبين الشغور الذي خلفه استشهاد شقيقه الأكبر داخل حزب الكتائب. علماً أن المعلومات تشير إلى مسار من البحث الهادئ والجدي والمتعمّق بين الوالد والابن المفجوعين، لسبر أفق هذه المسألة.
حلقة التداعي الثاني لاستشهاد الجميل، تتمثل في الواقع الحزبي. فثمة إجماع داخل الحزب على أن بيار كان «مشروعاً» في حد ذاته. وكان مشروعاً متعدد الأبعاد، حزبياً ودولتياً. واغتياله أدّى فعلياً إلى غياب «الصورة الكتائبية المستقبلية الواضحة»، أشخاصاً وأفكاراً وعلاقات وتحالفات، على المستويين الزمنيين المتوسط والبعيد. وتسوق الأوساط نفسها مثلا: «من أصل نحو 4 آلاف أقسموا اليمين الحزبية قبل أيام، أكثر من 3500 جاء بهم بيار، جمعهم هو شخصياً. بعده ماذا يفعل هؤلاء؟ من يأتي بالآخرين؟ أسئلة مطروحة...».
ويستعر التداعي الحزبي لاغتيال الجميل الابن، في ظل الأزمة السياسية القائمة، وفي ظل تطوراتها واستحقاقاتها. مثال آخر على ذلك، ما كشفته جهات مطلعة عن أن النائب نادر سكر تقدم فعلاً باستقالته من الحزب قبل أيام، غير أن الخطوة تم تجميدها من قبل المسؤولين، ريثما تناقش حيثياتها والخلفيات. وتشرح الجهات نفسها أن خطوة نائب بعلبك ـــ الهرمل الكتائبي، جاءت تعبيراً عن انسجام سكر مع ذاته واقتناعاته حتى النهاية. هذا الانسجام الذي واجه تحدياً مفصلياً مع العريضة النيابية المقدمة أمس لاتهام إميل لحود بخرق الدستور، والتي تخلف سكر عن توقيعها. ذلك أن الرجل الثاني في «القوات اللبنانية» سابقاً، وجد نفسه أمام مأزق أخلاقي ذاتي: كيف يكون على طاولة المكتب السياسي الكتائبي إن لم يسائل المعنيين عن عدم اختيار نائب خلف للرفيق الشهيد؟ ومن جهة أخرى، كيف يوقع بصفته النيابية على موقف سياسي لا ينسجم مع تطلعات القاعدة التي انتخبته نائباً في دائرة بعلبك ـــ الهرمل، والتي يدين بموقعه هذا لوكالته عنها؟
حيال هذا المأزق، قدم سكر استقالته التي لم تبتّ. غير أن الخطوة تؤشر إلى جزء من التداعي الحزبي لغياب بيار الجميل، وهو الجزء الذي يطرح السؤال حول الكتلة النيابية الفعلية للحزب، في الواقع الراهن، كما مع احتمال إجراء أي انتخابات مقبلة، مبكرة أو عادية.
ويبقى المستوى الثالث لترددات الاغتيال، على الصعيد المسيحي، وأول استحقاقاته، انتخابات المتن الفرعية. ذلك أنه بمعزل عن العقبة القائمة اليوم حيال توجيه الدعوة إلى الانتخابات، وبمعزل عن كيفية معالجتها، فإن المعنيين بالموضوع يؤكدون أن هذا الاستحقاق آت، وإن تأخر بعض الوقت. علماً أن هؤلاء يفتحون ضمن قراءتهم نفسها هلالين للإشارة إلى أن التأخير الحاصل في صدور مرسوم دعوة الهيئات الناخبة سيعقّد المسألة أكثر فأكثر. ذلك أنه استناداً إلى قانون الانتخابات النيابية، الرقم 171 تاريخ 6 كانون الثاني 2000، فإن الدعوة القانونية لانتخاب خلف للشهيد كان يجب أن تصدر قبل 21 الجاري كحد أقصى. أما وقد تعذّر ذلك، فإن أي دعوة لاحقة قد تقتضي اجتهاداً في تفسير النص القانوني الحالي، أو استصدار قانون خاص لجهة تعديل المهل القانونية، وهو ما يثير عقدة اضافية في ظل الأزمة القائمة بين المؤسسات الدستورية، ومنها المجلس النيابي.
غير أنه بمعزل عن هذه الجوانب، يظل السؤال المطروح: كيف ستتعامل عائلة الجميل وحزب الكتائب والقوى المسيحية الأخرى، مع الاستحقاق المتني المقبل، أياً كان أوانه؟ فهل يقبض على هذه السانحة لإعادة مد الجسور المسيحية ـــ المسيحية، بما قد يؤمّن فرصة لتحقيق خرق ما في جدار المأزق الوطني القائم، وما قد يبلسم ما تبقى من رواسب ما بين الانتخاب الأخير والاستشهاد؟ أم يستمر التحريض الذي اندلع قبل نحو 40 يوماً، تحت عناوين مختلفة ثبت خطأها ووهمها؟
المصادر المواكبة للحدث تؤكد أن الاحتمال الأول يبدو متقدماً حتى اللحظة، في ظل الحوار الحاصل بين أمين الجميل وميشال المر، كما في ظل استطلاعات للرأي أجرتها جهات محايدة، تؤكد قدرة العماد ميشال عون وحلفائه على خوض المعركة في شكل مؤكد. لكن الأكيد أن ثمة معالجات مطلوبة في هذا المجال، منها معالجة ملف العلاقة الشخصية مع عون، خصوصا في ظل وجود أسقفين مارونيين مكلفين من بكركي وشاهدين على الظلم الذي لحق به عقب الجريمة، ومنها التوافق على جعل المعركة خارج سلة الأكثرية الحاكمة. فهل تكفي الحسابات الواقعية لضمان حل يؤمّن المصلحة العامة المنشودة؟