إبراهيم الأمين
في نقاش متأخر بين الأمين العام للجامعة العربية عمرو موسى وأحد زواره، سمع عبارة مفادها أن مشكلة تيار “المستقبل” الحالية مردها الى أن “السنة في لبنان يقادون بعقل أقلّوي من صناعة جنبلاطية”. لم يقم موسى بردّ فعل وإن أنصت جيداً وكرر استغرابه للاحتقان المذهبي القائم في لبنان كما في غيره من الدول العربية.
إلا أن العبارة كما أوردها صاحبها، تفتح النقاش على واقع قاس يعيشه تيار “المستقبل” وهو الأكثر حيوية في تاريخ السنة في لبنان. وهو التيار الذي قام على تجربة حفرها الرئيس الراحل رفيق الحريري في ربع قرن من المعارك السياسية وغير السياسية التي جعلت منه عنصراً مؤثراً ما أدى الى تعاظم التكتل السياسي حول الطائفة الأكثر رجحاناً في المنطقة. لكن المثير للاستغراب حجم التعقيدات التي ترافق وراثته في المؤسسات والناس والنفوذ. وبرغم أن القيادة القائمة الآن لآل الحريري ليست محل تنازع بين مناصري هذا التيار، إلا أن مفارقات بدت عادية قبل سنة ونيف لكنها تبدو الآن شديدة التعقيد.
كان رفيق الحريري صاحب الكلمة الفصل في كل ما خص عمل مؤسساته وناسه ونفوذه. وعندما كان يقرر أمراً يلتزمه الجميع ولو على مضض. وكانت للحريري مرجعية لا رد لمطالبها وهي السعودية، وهو كان كثير الحراك في ما خص التوصيات او المطالب الغربية بما فيها الآتية على لسان صديق مثل الرئيس الفرنسي جاك شيراك.
اليوم وبعد عامين تقريباً على رحيله، ثمة أكثر من مرجعية لهذا التيار. سعد وما يمثله في كل شيء، ونازك وما تمثله من قوة نفوذ لها طابعها المالي من جهة ولها طابعها الشخصي من جهة ثانية، ثم بقية أفراد العائلة قبل الانتقال الى بيروت حيث انتزع فؤاد السنيورة مكانة تجاوزت موقع المساعد للزعيم الى شريك في الإدارة ترسم صورته الى جانب صورة الزعيم الراحل ووريثه المكرّس. والى جانب هؤلاء ثمة دوائر أخرى كانت تؤدي دور الدعم او المساعدة على تنفيذ ما هو مطلوب. وكانت مكلفة بناء شبكة علاقات وخدمات في أكثر من منطقة، وفجأة وجدت نفسها في موقع القادر على اتخاذ قرار أو المضي بخطوات دون الحاجة الى اتّباع الأسلوب القديم في المتابعة والمشاورة. وهو أمر يخص حشداً كبيراً من المعاونين السابقين للرئيس الراحل، وهؤلاء ينتشرون اليوم في مؤسسات سياسية واقتصادية وأمنية وخلاف ذلك من مواقع النفوذ التي تتقارب الى حدود تشكّلها كدائرة واحدة، هي التي تقود الآن التيار في لحظة تبدو مفاجئة من حيث توسع الإطار القيادي، لكنها تدل مرة جديدة على ضعف في الموقع المركزي الذي يفترض به تقليدياً أن يكون الرأس الوحيد الذي من تحت إبطه يمر الآخرون.
وفي الخارج لم تعد هناك مرجعية واحدة. تملك السعودية نفوذاً كبيراً في الإدارة السياسية والمالية للتيار الأكثر نفوذاً وسط سنة لبنان، وهي تملك كلمة حاسمة في أمور كثيرة. لكن الأمر يتصل الآن بالشراكة الفرنسية التي تنطلق من “عهد” شيراك أمام أفراد العائلة بأنه لن يترك مجالاً لأي تسوية أو مخرج قبل الانتقام من قتلة الرئيس الحريري، وهو يشير بإصبع واحد باتجاه سوريا. ثم هناك الدور الأكبر للولايات المتحدة التي لم تتح لأحد مجالاً لمشاركتها الفعلية في القرار الذي تراه مناسباً في لبنان وهو ما كرّسه مباشرة نائب الرئيس هناك ديك تشيني المعروف بنفوذه غير العادي في الإدارة الأميركية من خلال تواصله المباشر مع قادة فريق السلطة في لبنان ومع “المستقبل” على وجه التحديد.
وجديد تيار “المستقبل” حالة التعبئة التي تطلبت في لحظة معيّنة حرب إلغاء لا سابق لها، لم تعد الزعامة السنية القوية تتحمّل حجم المشاركة، ولو الضئيلة، للقيادات والمواقع السياسية وغير السياسية بين سنة لبنان. وهو ما أظهرته الانتخابات النيابية والبلدية التي جرت خلال السنوات العشر الأخيرة. لكن ما برز خلال الفترة القريبة الماضية أن القيادة الجماعية وما يتبعها في حالة الفوضى من لا مركزية وجدت أنه لا مجال لأي منازعة، ولا سيما أن استطلاعات الرأي الخاصة بفريق “المستقبل” أظهرت تراجعاً في التماسك على المستوى الشعبي وأظهرت أن هناك قابلية جدية للمشاركة من جانب القيادات الأخرى، ما دفع بـ“العقل” المدبر الذي يقف خلف كل الاستراتيجية التي يعمل وفقها “المستقبل” إلى الاقتناع بأنه لا مجال لأي تسوية، ولا بد من الضرب بقوة وعلى شكل إهانة، لكل المعارضين من السنة لقيادة الحريري ـــــــ السنيورة ـــــــ مجموعة المساعدين السابقين. وهو الأمر الذي تطلّب في لحظة معيّنة استنفار الشارع والقاعدة على أساس لا يتصل بالصراع السياسي التقليدي. وليس في اليد حيلة غير المحكمة الدولية، والانتقال منها نحو صيغة أخرى تقول إن السنة في لبنان في خطر، وإن هناك من يريد التخلص منهم من خلال ضرب مواقع النفوذ الخاصة بهم في السلطة وخارجها. ولم يكن هناك من كلام سوى على الاستعداد للدخول في مواجهة ذات طابع طائفي ومذهبي. وخلاصتها: المواجهة السنية ــــــ الشيعية.
لكن واقع الحال أن الإدارة الفعلية لهذه المجموعة ليست من النوع الذي يتطلب نفوذاً بالمعنى الإداري، وهي ليست هذه المرة في قريطم، بل في مكان آخر. بعض التدقيق يفيد في معرفة أن من يتحكم بالدور الاستشاري الفعلي في قريطم هو النائب وليد جنبلاط وفريقه، وهو الذي يتولّى الإدارة الفعلية للماكينة الإعلامية لفريق “المستقبل”. ويتولّى جنبلاط وحيداً إصدار أمر العمليات النهائي ويتولّى أمر التعبئة للجمهور المتعطش للزعامة المباشرة. وهو المناسب للجمهور المحتقن والمتوتر الذي يعجبه ويغريه كلام عال ومرتفع مليء بالتوتر واللاعقلانية كما يفعل جنبلاط. وهو الذي يدير نفوذاً متقدماً داخل الحكومة وداخل المؤسسات الملحقة، ويملك حلقات اتصال موسعة مع الجهاز الأمني الرسمي والخاص المموّل من جانب تيار “المستقبل”، ولا سيما أن جنبلاط يملك الآن مكانة متقدمة عند جمهور تيار “المستقبل” لا عند قيادته فقط.
لكن المعضلة تكمن في أن الإرث الثقافي والسياسي والاقتصادي لسنة لبنان لا يتصل مطلقاً بالطموحات الاقلوية التي تسكن عقل جنبلاط، الذي لا يترك فرصة إلا يقول فيها إنه محكوم عليه بالاعدام من قبل النظام السوري، إما لأجل تبرير كل توتره السياسي وإما لأنه كما يقول احد الخبثاء: لقد قرر جنبلاط مواجهة قرار إعدامه بالانتحار!.