جوزف سماحة
قضية المحكمة الدولية في صلب الأزمة اللبنانية الراهنة. لا بل تقول الموالاة إنها، أي المحكمة، جوهر هذه الأزمة. ترفض المعارضة هذا التقدير وترد بأن قضية المشاركة في تقرير المصير الوطني هي الأساس وأن «المحكمة» تندرج في ذلك بما يحتّم التشاور والتوافق على قاعدة الموافقة المبدئية.
كانت «المحكمة» حاضرة في ما حاوله عمرو موسى. وهي حاضرة في ما يُنسب إلى نبيه بري من مساعٍ محتملة. أضف أنها موضوع عريضة تطالب بفتح دورة استثنائية لمجلس النواب مع ما أثاره ذلك من تشنّج ولغط. وبرزت، قبل أيام، محاولة يقودها شارل رزق لا تستبعد تعديلاً على نظام المحكمة وتشير إلى خيارين، أحدهما تنقيتها مما يستوجب عرضها على البرلمان أو الرضوخ لإصدارها من مجلس الأمن تحت الفصل السابع.
«المحكمة» هي فرس الرهان الأول للموالاة. تتم التعبئة الشعبية عبرها. وتقدم بصفتها قاعدة من قواعد لبنان الجديد المستقل عن سوريا ومعلماً من معالم ممارسة السيادة المستعادة. إنها مفتاح من مفاتيح العلاقة الإيجابية مع الخارج كلّه، عربياً ودولياً، باستثناء سوريا. كما أنها وسيلة حماية من مسلسل اغتيالات يطاول شخصيات من لون واحد.
وعندما تطرقت «مجموعة الأزمات الدولية» إلى الأزمة اللبنانية وجدت أن من بين المخارج التركيز على الصفة «الردعيّة» لهذه المحكمة، وبدا ذلك موجّهاً ضد من يريد لها أن تكون أداة تحويل «الاستقلال اللبناني» إلى «ثورة ديموقراطية في سوريا»، أي أداة هجوم يمكن لأي قوة دولية الاستفادة منها.
المحكمة خبز يومي للبنانيين وتحتل موقعاً متصدّراً في حياتهم العامة والداخلة في نفق لا ضوء في آخره حتى الآن.
في خضمّ هذه الوقائع شهدنا تطوراً لافتاً.
بدأ الأمر بريبورتاج بثّته قناة «المنار» عن واحد من الأعمال التدميرية للعدوان الإسرائيلي. تضمّن التحقيق المرئي اتهامات لوزير الاتصالات مروان حمادة. لم تكن محاولة التوازن ناجحة تماماً ويمكن الاستطراد إلى أنه لم يكن مبرّراً استحضار ما نشر على موقع إلكتروني مشكوك في صدقيته.
كان من حق حمادة أن ينفي، ويوضح، ويغضب، ويشكّك، ويشكو إلى المجلس الوطني للإعلام وإلى الوزارة. كان من حقه، أيضاً، أن يقاضي «المنار». إلا أنه ذهب أبعد من ذلك كثيراً. أصدر بياناً مقتضباً تضمّن النقاط الآتية:
ـــ اتهم «حزب الله» وقيادته بالتحريض على قتله وبمحاولة إرهابه سياسياً ونفسياً.
ـــ اعتبر أن «الحزب» يمعن اليوم في تخريب لبنان.
ـــ أكد أن الحزب وفّر تغطية للّذين حاولوا اغتياله حيث إن السيارة التي استهدفته فخّخت في منطقة سيطرة الحزب وكذلك تمّ تزوير لوحة تلك السيارة في مرأب يقع في المنطقة نفسها.
ـــ اعتبر أن القضاء سيقضي يوماً ما، لبنانياً ودولياً، على ممارسات الدويلة الظلامية وعقليّتها.
ـــ ذكر أنه سيطلب توسيع الدعوى التي أقامها على النشرة الإلكترونية السورية.
ـــ ختم أنه سيسلّم شريط «المنار» إلى لجنة التحقيق الدولية.
هذا أكثر مما يحتمله بيان واحد رداً على فقرة في نشرة إخبارية. إنها سابقة في منتهى الخطورة. ها نحن أمام وزير في الحكومة، وركن بارز في «14 آذار»، والضحية الأولى لموجة الإرهاب، والمتابع الدؤوب لعمل لجان التحقيق، ها نحن أمام شخصية بهذه الأهمية والمحورية تعطي للمحكمة الدولية بعداً لبنانياً داخلياً.
نفهم من كلام حمادة أن «حزب الله» متورط بطريقة ما في محاولة اغتياله، وأنه يكرر ذلك ضده ويمعن تخريباً في لبنان. ونفهم أننا أمام إخبار يطالب لجنة التحقيق الدولية بأن تمارس مهماتها وتضع يدها على القضية.
ينسف حمادة ببيان، الاحتياطات السابقة التي جرى الإعلان عن ضرورتها. فالمحكمة الدولية لم تعد، في رأيه، عملاً لبنانياً ـــ دولياً موجّهاً إلى الخارج لحماية الداخل. أصبحت، مثل قرارات أخرى لمجلس الأمن، عملاً من الخارج يجب توجيهه إلى الداخل. لقد انتهت إذاً مرحلة وبدأت أخرى، وقد يكون المقصود وضع حد للجهود المبذولة من أجل صياغة لموضوع المحكمة تحظى بإجماع لبناني.
إلى ذلك، لأول مرة، تتبنى شخصية لبنانية تهمة «الإرهاب» الموجّهة إلى «حزب الله» مدركة، على ما يقول التقرير الأخير لسيرج براميرتس، أن إلقاء تهمة في جريمة يسحب نفسه على الجرائم الأخرى. ولأول مرة يفصح مسؤول لبناني عن أن الرهان معقود على القضاء اللبناني والدولي للقضاء على ممارسات الدويلة الظلامية وعقليّتها، مخالفاً بذلك التأكيدات التي يعلنها حلفاؤه اللبنانيون، والمبنية على معطيات لديهم بأن وجهة الاتهام محدّدة.
بيان واحد فقط وتصبح الكوابيس حقيقة. كوابيس المخاوف من حرف التحقيق عن مجراه واستخدامه أداةً في الصراع السياسي على السلطة أولاً وعلى مصير لبنان ثانياً.
لا نعرف كيف ستتعاطى الموالاة مجتمعةً مع هذه الانعطافة التي يمكنها أن تضيف عناصر تفجيرية إلى المأزق الذي نعيشه. ولا نعرف، أيضاً، إذا كانت يد مروان حمادة ارتجفت وهو يكتب البيان.
نعرف، في المقابل، أن ما تعرّض له الرجل وفّر له رصيداً يحاول، بنجاح، إنفاقه سريعاً.
نعرف، أيضاً، أن المرارة ليست ناصحاً جيداً وأنه يمكن، أحياناً، اكتشاف الغرض المختبئ خلفها.