عصام نعمة اسماعيل *
إن أكثر الحجج ضعفاً هي تلك الرامية إلى الطعن بعملٍ يأتي الطاعن بمثله، فكيف يمكن من يقرأ أو ينظر في هذه العريضة أن يثق بمقدِّمها وقد ارتكب الذنب ذاته الذي يتهم رئيس الجمهورية بارتكابه. وكيف تفسر الأكثرية النيابية موقفها عندما تقول عن الفعل نفسه مرة إنه يمثّل خرقاً للدستور ومرة إنه الحالة الأسمى من حالات المشروعية؟
فلو أجرينا مقارنة بين الأسباب الواردة في العريضة الاتهامية والتي صنِّفت في خانة خرق الدستور، وبين الأسباب التي يتمسك بها رئيس الجمهورية لوصف حكومة الرئيس السنيورة بأنها حكومة غير شرعية لمخالفتها ميثاق العيش المشترك، يمكننا أن ندلي بالآتي:
ــ ورد في عريضة الاتهام أن “الشعب مصدر السلطات وصاحب السيادة يمارسها عبر المؤسسات الدستورية”. وأنه “لا يجوز حرمان قسم من المواطنين حقهم في ممارسة السيادة في المؤسسات الدستورية. وأن للمواطنين في دائرة الجبل الثانية (قضاء المتن) الحق في انتخاب 8 نواب، منهم 4 من الطائفة المارونية، ولهم الحق في ممارسة سيادتهم في المؤسسات الدستورية بهذا العدد من الممثلين. فيكون حرمانهم حق ملء المقعد الماروني الذي شغر باستشهاد النائب الماروني بيار الجميل اعتداء على حقهم الدستوري..”.
هنا نسأل معدّي العريضة، ألا يمثّل بالمنطق نفسه حرمان الطائفة الشيعية من أن تتمثل بصورة عادلة في الوزارة أيضاً اعتداء على حقها الدستوري؟..
ــ ورد في العريضة الاتهامية: “أن استشهاد النائب المسيحي أدى إلى شغور مقعده فانخفض عدد النواب من 128 نائباً موزعين مناصفة بين المسيحيين والمسلمين إلى 127 يفوق فيهم عدد النواب المسلمين عدد النواب المسيحيين إذا لم ينتخب نائب خلفاً للنائب الشهيد بيار الجميل.
وإذا كان شغور مقعد نيابي واحد يؤدي إلى كل هذا الخلل، فوفقاً للمنطق نفسه ألا يمثّل خروج وزراء طائفة كاملة من الحكومة خللاً أكبر، وخاصة أن المادة 95 من الدستور تتحدث عن المناصفة والتوزيع العادل؟
ــ ورد في العريضة الاتهامية أن امتناع رئيس الجمهورية عن توقيع مرسوم دعوة الهيئات الانتخابية.. سيؤدي الى تغيير الأكثرية التي تؤمّن نصاب جلسات مجلس النواب وتالياً الأكثرية التي تتخذ القرارات وفقاً للمادة 34 من الدستور.
فنسأل أهل المعرفة، إذا كان شغور مقعد واحد يؤدي إلى التأثير على نصاب انعقاد جلسات مجلس النواب والأكثرية التي ستتخذ القرارات، أفلا يؤدي شغور مقاعد 6 وزراء إلى التأثير على نصاب انعقاد جلسات مجلس الوزراء وآلية اتخاذ القرارات فيه؟
ــ ورد في العريضة الاتهامية أن رفض رئيس الجمهورية توقيع مرسوم دعوة الهيئات الانتخابية إلى انتخاب خلف للشهيد النائب بيار الجميل سيؤدي الى تعطيل آلية سير الحياة الديموقراطية والبرلمانية في لبنان والتأثير على صحة القرارات الصادرة عن مجلس النواب نتيجة تغييب احد الأعضاء الذين يتألّف منهم المجلس دستورياً وقانونياً... بالمنطق نفسه نسألكم: إذا كان شغور مقعد نيابي سيؤدي إلى بطلان كل تصرفات مجلس النواب، أفلا يؤدي شغور مقاعد 6 وزراء إلى النتيجة المماثلة؟.
لكل هذه الأسباب نقول إن ما أدلى به نواب الأكثرية في العريضة الاتهامية، إنما هو صك براءة لرئيس الجمهورية. هو يقول لهم إن الحكومة التي يخرج منها وزراء طائفة بكاملها احتجاجاً على تصرفاتها ومواقفها اللا وطنية هي حكومة فاقدة للشرعية. وهو لا يستطيع أن يصادق على أي عمل يصدر عن هذه الحكومة قبل تصحيح الخلل في بنيتها. وهم يقولون ‘ن السماح بشغور مقعد نيابي وحيد هو خرق للدستور.
ونجيب بأنه صحيح أن الامتناع عن توقيع مرسوم دعوة الهيئات الناخبة هو خرق للدستور في الظروف العادية، لكن في وضعية هذه الحكومة وفي مجمل الظروف التي ستجري فيها الانتخابات الفرعية، يكون الامتناع عن التوقيع عملاً متوافقاً مع الدستور للأسباب التي أدلينا بها أعلاه، وأيضاً للأسباب الآتية:
ــ1 إن إجراء الانتخابات في ظل غياب المجلس الدستوري بجعلها انتخابات باطلة وغير دستورية، لأن المجلس الدستوري هو السلطة الدستورية التي من مهماتها الفصل في صحة الانتخابات النيابية. فكان الحفاظ على كيانية المجلس الدستوري واستمرارية عمله، هو بموازاة المحافظة على الدستور الذي أنشأ هذه المؤسسة وحدد صلاحياتها. وإن كل تعرض لهذه المؤسسة، هو بمثابة خرق للدستور وارتكابٍ لمحرَّمٍ يمسُّ كيان الدولة بذاتها، لأنه أفقد ركن السلطة أحد أجنحته. فالمجلس الدستوري، الذي هو سلطة دستورية موازية للسلطتين التنفيذية والتشريعية، والمغيَّب بقوة إرادة الأكثرية النيابية الحاكمة.. إن أي عملية انتخاب تجري وهذا المجلس معطَّل عن العمل ومغيّب قصراً تكون عرضة للإبطال بسبب حرمان المرشح الخاسر فرصة الطعن بصحة انتخاب النائب الفائز، وهو حق مكفول بالمبادئ الدستورية.
ــ2 لعدم شرعية الحكومة التي ستجري هذه العملية الانتخابية: لم ينتبه النواب معدّو العريضة الاتهامية، إلى أن هناك فارقاً بين حكومة تصريف الأعمال التي هي حكومة شرعية وردت الإشارة إليها في المادة 64 من الدستور، وبين حالة الحكومة غير الشرعية التي هي غير موجودة دستورياً وجميع تصرفاتها باطلة بطلاناً مطلقاً ولا يمكنها أن تصرِّف أعمالاً أو أي أمرٍ آخر. وإذا ما أجريت عملية الانتخابات الفرعية في ظل هذه الحكومة غير الشرعية، فإن المجلس الدستوري سيبطل حكماً هذه الانتخابات فور أن يطلق ويؤذن له بالعمل.
وهناك مثال عملي في لبنان على إعلان بطلان جميع الأعمال التي قامت بها حكومة بحجة أنها حكومة غير شرعية.
فبتاريخ 19/12/1990 أصدر مجلس الوزراء اللبناني قراراً جاء فيه: “اعتبار جميع النصوص التي صدرت عن حكومة العماد ميشال عون بعد انتخاب الرئيس الشهيد رينيه معوض في 5/11/1989 عديمة الوجود وغير منتجة لأي أثر قانوني... وقد أقر مجلس شورى الدولة اللبناني صحة هذا القرار”.
(يراجع: م.ش. قرار رقم 34 تاريخ 20/10/1997 حزب الحركة اللبنانية/ الدولة، مجلة القضاء الإداري 1999 ص57).
ــ3 لعدم جواز إجراء هذه الانتخابات الفرعية في ظل هذا التشنج والاحتقان بين فئات الشعب اللبناني ــ وهذا المبدأ أقره المجلس الدستوري ــ وبالمصادفة في انتخابات المتن الفرعية التي جرت في عام ــ 2002 حيث ورد في هذا الحكم: “... هذا التشنج السياسي الذي ينجم عنه ويحمل في طياته مخاطر أمنية وانقسامات فئوية يسهل معها زرع الفتن، هي ما يحول دون اجراء انتخاب في ظروف ديموقراطية وسليمة تتأمن معها صحته وصدقيته إذا ذهب المجلس بخياره إلى فرض إجراء هذا الانتخاب.
وبما أن المجلس، بقدر ما يحرص على صحة التمثيل الشعبي يحرص أيضاً على الوفاء للمبدأ الدستوري الوارد صراحة في الفقرة (ي) من مقدمة الدستور، حيث لا شرعية لأي سلطة تناقض ميثاق العيش المشترك، فلا يستقيم التمثيل الشعبي أي تمثيل، في ظل أوضاع تهدد صيغة هذا العيش التوافقية والميثاقية التي ارتضاها الشعب اللبناني صاحب السيادة ومصدر السلطات، وبما أن المجلس يرى في ضوء الاعتبارات أعلاه استبعاد فرض اعادة الانتخاب على المقعد الذي...”.
(يراجع: م.د. قرار رقم 5/2002 تاريخ4 تشرين الأول 2002 الصادر في الطعن المقدَّم من المرشحة ميرنا المر).
ونختم بالقول إن نواب الأكثرية غير جديين في تقديم العريضة الاتهامية، وإلا لما كانت نشرت في صحفهم خلافاً لما تفرضه المادة 21 من قانون أصول المحاكمات أمام المجلس الأعلى التي تعتبر كل ما يتعلق بطلب الاتهام سرياً، ويحظر نشره. فهم يدركون جيداً أن براءة رئيس الجمهورية من تهمة خرق الدستور تعني أن الرئيس محق في وصف الحكومة بأنها غير شرعية، وأن كل تصرفاتها باطلة وغير ذات أثر قانوني.
* باحث قانوني في مركز بيروت للأبحاث والمعلومات