جان عزيز
لم يكن المسيحيون ليتوقّعوا في أسوأ تقديراتهم، إبّان مواجهتهم حقبة الوصاية السورية، أن يصلوا إلى الدرك الذي بلغوه اليوم، بعد 20 شهراً كاملة على استعادة السيادة.
ففي ختام السنة السيادية الكاملة الأولى، يقف هؤلاء بين القلق والقرف والخوف والغضب. يقفون وسط صراع عنيف لم يفهمه بعضهم بعد، ووسط «لوغوماكي» غوبلزية، لم يخبروها في أشد حملات تضليلهم، ووسط احساس بعضهم بغياب المشروع والخطاب والهدف، وحتى الهوية.
كيف يقرأ هذا الوضع؟ على مدى أكثر من 8 عقود من الاستقلال العشريني الهش، عاش المسيحيون في داخلياتهم، صراعاً ذاتياً بين فكرتين: واحدة تقول بأولوية الخطر الداخلي المسلم على الميثاق والشراكة. وثانية تقول بأولوية الخطر الخارجي السوري على الكيان والسيادة. أصحاب المذهب الأول قنعوا بالسيادة المنقوصة على قاعدة «استقواء» ما، في وجه نظرية حسن خالد الشهيرة حول القبول السنّي بلبنان، على قاعدة انتظار «اليوم الأبرك والظرف الأفضل». فيما أصحاب المذهب الثاني ارتضوا النضال في وجه الوجود السوري لوحدهم، نيابة عنهم وعن الشريك الغائب، رهاناً منهم على امكان نسج «لبنانية» ميثاقية وفاقية متوازنة، تجسر بين شركاء الوطن، حين يحين أوان استرجاع السيادة.
وفي أعوام رئاسة بشار الأسد في سوريا خصوصاً، صار الصراع بين الفكرتين المسيحيتين أشد حضوراً وعلانية. حتى أن دمشق دخلت على خطه جهاراً. وراهن «نظام الدولة» في سوريا على بكركي تحديداً، لترجيح المذهب الأول. ذات يوم من آب 2001، عاد زائر روحي من عند بشار الأسد مباشرة إلى الصرح، وفي يده محضر لقائه مع «سيادة الرئيس»، وعرض صريح واضح. رفض صاحب الغبطة بصمت، وتابع حفر الجبل بإبرة إيمانه ورهانه، وحسم الخيار: مع استعادة السيادة أولاً، وترسيخ الميثاق ثانياً.
فجأة تحققت المعجزة، خرجت سوريا، انتصرت بكركي للحظة... وتغيّر المشهد.
في 17 آذار 2005، وقبيل دخوله إلى البيت الأبيض للقاء «زعيم العالم»، قرأ سيد بكركي تصريح الناطق باسم الرئاسة الأميركية حول زيارته، توقف عند قول الأخير إن «واشنطن تستقبل بطريرك الموارنة كرمز للتعددية الدينية والسياسية في وطن الأرز». كان غبطته في أجواء الثنائية الأميركية القائمة حول لبنان ومستقبله بعد الجلاء السوري، وحول ما أن يكون نموذجاً لديموقراطية مركّبة على قاعدة التعدّد الديني المطلوب في الشرق الأوسط الجديد، أم يكون نموذجاً لحكم إسلامي سنّي معتدل، يصلح للنقل والعدوى إلى الجوار. جاءه من يقول له إن كلام الناطق الرئاسي مدخل له لتزكية الطرح الأول. رفض، وظل يؤكد أن هاجسه السيادة، على أساس أن الميثاق المتوازن، تحصيل حاصل، لن يتأخر الشريك عن ايفائه. يومها لم يكن المعنيون قد عرفوا أن المسألة حسمت في 20 شباط 2005 في بروكسل، على عشاء بوش ـــ شيراك، يوم قايض الأخير اصطفافه الأميركي عراقياً، مقابل أن يكون سعد الحريري سيد لبنان المقبل.
ومع بطريركهم، ظل المسيحيون في خندق السيادة، فيما شركاؤهم يحضّرون نظام «السنّية السياسية» حجراً حجراً، في الداخل والخارج. حتى كانت صدمة الصرح وسيده: قال لهم نريد انتخاب النواب الذين أعطانا إياهم الدستور. لم يردّوا عليه. قال لهم إنكم لم تتركوا لنا إلاّ 16 مقعداً. لم يعبأوا. قال لهم إنه بات لكل طائفة زعيمها، فحقدوا وبدأوا آخر مراحل الإبادة.
عام 2006 بدأ في ظل ما يشبه «الثورة المضادة» مسيحياً. ثورة جسّدها أكثر من ثلاثة أرباع المسيحيين في كل لبنان. وفي شكل متزامن مع تلك الثورة توالت التفجيرات المصادفة في المناطق المسيحية حصراً. كأن المطلوب إحداث تغيير في الوجدان المسيحي، يلهيه عن نظام «السنّية السياسية» المترسّخ، ويبقيه في حرب الوجود السوري. بعد التفجيرات، ارتفعت الوتيرة، ليقفل العام 2005 على أكبر فاجعة مسيحية منذ 14 أيلول 1982، استشهد جبران تويني، ولم يتغيّر المسيحيون.
هكذا لم تكن مصادفة ربما، أن تبدأ سنة 2006 بغزو الأشرفية في 5 شباط. كأن التكتيك تغيّر من محاولة استيعاب الرفض المسيحي، إلى محاولة فرض انعدام الوزن عليه، عبر معقله البيروتي الأول. الغزوة بات معروفاً من حضرها وموّلها ورافقها ولفلفها. بعد 9 أيام، كانت الخطوة التالية: إعادة تركيب الوطن على روزنامة «السنّية السياسية» حصراً، 14 شباط بدلاً من 14 آذار موعداً للاحتفال، والزعيم المبايع في عشاء بروكسل، ركناً أول وسط فرسان الضريح، والباقي تفاصيل. وبدا أن سياسة فرض انعدام الوزن المسيحي وضعت على السكة: سياسياً، مركز وحيد للقرار، عنوانه قريطم. حتى في غياب سيده الشاب، تجتمعون هنا، دولتيا، حصار منهجي كامل لآخر المواقع المسيحية: رئاسةً وقضاءً وقيادة جيش وحاكمية مصرف مركزي. اقتصادياً ومالياً، تمدد «وهّابية المال السياسي» في اتجاه البنى المسيحية كاملة، خصوصاً الحزبية منها. ديموغرافياً إقفال كامل لمرسوم التجنيس الذي أفاق اللبنانيون بعد 12 عاماً على إمراره، ليكتشفوا أنه كان إنجازاً للسنّية السياسية، أكثر منه إذعاناً للوصاية السورية. تربوياً إحكام القبضة على سلسلة العمل التربوي الدولتي، من الوزارة إلى اللجنة النيابية، وما بينهما من رسمي وخاص...
رفض ميشال عون لوحده، فيما كانت البلبلة تتسلل عبر أدراج الصرح، وتلفّه بالشلل والتقلّب بين رأي وآخر . غير أن انعدام الوزن المطلوب مسيحياً، لم يلبث أن سجّل مفاجآت مذهلة، بين المجمع الماروني في 10 حزيران والكلام الغربي الأخطر تجاه عون قبل أيام...وللكلام صلة.
ـــ يتبع الخميس المقبل ـــ