جوزف سماحة
لا يمكنك، في لبنان، أن تكون مع محكمة ذات طابع دولي. يجب عليك أن تكون مع هذه المحكمة ذات الطابع الدولي. إذا قررت أن تراجع بنداً أو تدرسه فلن تكون متهماً بأنك تبالغ في الدقّة، أو تحاول تعديل جانب، أو تسعى إلى التواطؤ مع مشتبه بهم... كلا. ستذهب التهمة إلى النهاية: أنت قاتل. يسقط الحكم مثل المقصلة وينتهي الأمر.
نصف اللبنانيين يكاد يتهم النصف الآخر بارتكاب جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري. الانشقاق يصل إلى ذروة جديدة. ويلوح في الأفق القريب، كما يصرّح قيادي لبناني، خطر «انكسار الشراكة».
اللبنانيون منقسمون. ليس الأمر سرّاً. إلا أن السؤال المطروح هو هل بلغ الانقسام حداً يجعل «التشاور» نافلاً، أو محكوماً بالفشل. هناك من يميل إلى الجواب بالإيجاب، مرفقاً ذلك بتحذيرات تقلق أكثر مما تطمئن.
لقد كانت القرارات الدولية حاضرة على الدوام في هذا الانقسام لإثارته، وتأطيره، وتشجيعه. وثمة خط واصل يمتد من القرار 1559 ليصل إلى مسوّدة المحكمة الخاصة. ولذا يمكن القول إن ما نشهده من اصطفاف حالي في ما يتعلق بالمحكمة يتجاوز الخلافات التقنية التي يمكن استيعابها. فهذه الخلافات تطال الصلاحيات، والدستور، والقوانين، وتوازنات القوى، وامتلاك كل جهة شعاراً مركزياً، وتصوّر الحلول والمخارج، إلخ...
الاستقبالات المتباينة لمسوّدة إنشاء المحكمة الخاصة تدلّ على وجود أزمة أشدّ عمقاً بكثير مما يبدو للوهلة الأولى. فالمسوّدة، بهذا المعنى، هي مرآة مكبّرة للهوّة الفاصلة بين المواطنين.
العنوان الأبرز لهذه الهوّة هو وجود مزاجين لبنانيين متناقضين في التعاطي مع ما يسمى تجاوزاً «المجتمع الدولي».
هناك من ينظر إلى هذا «المجتمع» بطمأنينة وثقة ويرتاح إلى دفء العلاقة معه. يعتبره داعماً للسيادة، مهتماً بـ«الحقيقة»، مؤمناً بأولوية الدولة على الميليشيات، بديلاً محترماً للإدارة السورية السابقة. ويُبنى على هذه المقدمات أن التجاوب مع «الشرعية الدولية» فرضٌ واجب، وأن الاهتمام الدولي بلبنان فرصة لا يجوز تفويتها، وأن التلاقي مع هذا الخارج يجب أن يصل إلى حد أن برنامج الحكم الداخلي يمكنه أن يكون تعداداً لقرارات مجلس الأمن. يريدون التهدئة في الجنوب، نريد التهدئة في الجنوب. يريدون الجيش، نريد الجيش. يريدون نزع سلاح «حزب الله»، نريد نزع سلاح «حزب الله». يريدون احترام الخط الأزرق، نريد احترام الخط الأزرق. يريدون تجريد الفلسطينيين من السلاح، نريد تجريد الفلسطينيين من السلاح. وفوق ذلك، ثمة مساعدات في الأفق، واستوكهولم، وباريس ــ 3، ومليارات، ومساعدات، وإعادة إعمار، و... مثل حبة الكرز فوق قالب الحلوى: الخصخصة!
يشعر هذا الفريق اللبناني بأنه مثل سمكة في بحر «المجتمع الدولي». التناغم والتكامل فوق الوصف. يأتي تيري رود لارسن مستكشفاً، يليه ديتليف ميليس محققاً. يذهب ميليس، يأتي سيرج براميرتس. ما إن يغادر هذا حتى يصل خافيير سولانا، أو «كوندي» (إذا لم تأتِ نذهب إليها)، ويمر علينا من وقت إلى آخر طوني بلير مبتسماً! كل ما يأتي من هذا «الخارج» خير، ومسوّدة المحكمة الخاصة جزء من هذا الخير. التشكيك فيها، أو في بند منها، جحود ونكران جميل. إنها إضافة ثمينة إلى ترسانة يجري بناؤها.
هناك من ينظر إلى «المجتمع الدولي» نفسه بقلق وحذر. يعتبره منحازاً ضد المصالح الوطنية العليا للبنان. قد يضطر إلى تسويات مع بعض ما يقترحه ولكنه يشرط ذلك بكمّ من التحفظات. القرارات الصادرة عن مجلس الأمن برأي فريق من اللبنانيين، تعمّق الشرخ لأنها مسيّسة جداً وساعية إلى دفع البلد نحو مصير لا يلقى إجماعاً. لذا الاشتباه ضروري. وكل تعاطٍ بريء مع الوافد إلينا هو دليل إضافي على انعدام الحسّ السيادي الجدّي لدى البعض، وعلى الرغبة في استبدال وصاية بوصاية.
يستذكر لبنانيون، مثلاً، أن القرار 1701 مرّ بمخاض عسير. كانت النسخة الأولى سيئة فأمكن تعديلها. فهل كنا سنسمي المسوّدة الأولى «قراراً صادراً عن الشرعية الدولية» لو لم يتم النجاح في تغييرها؟ ثم ألا يدلّ ذلك على الواجب في تمحيص كل شيء، والتدقيق فيه، وعدم الاستسلام أمامه، والسعي إلى إدخال تعديلات عليه، والنجاح في ذلك؟ لمَ لا يصحّ على مسوّدة المحكمة ما يصح على القرار المشار إليه علماً بأن منسوب «السياسة» في الحالتين متقارب مع التسليم بتفاوته.
ويسند اللبنانيون هؤلاء مطالعتهم إلى أن دولاً في مجلس الأمن نفسه، دائمة أو غير دائمة العضوية، أدخلت تعديلات على مسوّدة المحكمة انطلاقاً من حسابها لمصالحها وتخوّفاً من تسجيل سابقة. إن ما يحق لهذه الدول يحق، من باب أولى، للبنانيين أو لقسم كبير منهم. فالواجب، في هذه الحالة، مغادرة البراءة المصطنعة والتعامل مع ما يصدر عن مجلس الأمن بصفته الواقعية أي بكونه حصيلة لتلاقي إرادات سياسية ومصلحية يطلق عليها، تحبّباً، اسم «الشرعية الدولية». وهكذا يفترض النظر إلى توازنات القوى في المجلس، واكتشاف الصفقات وراء كل قرار، وملاحظة مدى أرجحية دولة على غيرها، وإعطاء النفس الحق في إبداء الرأي، وخاصة إذا كان المصير الوطني على المحكّ.
اللبنانيون، إذاً، لم يختلفوا في استقبال المسوّدة فقط. استقبلوها هذا الاستقبال لأنهم مختلفون على عناوين كثيرة تشمل، في ما تشمل، التوازن السياسي الداخلي، ووجهة الحكم، وطبيعة السلطة، وموقع لبنان في المنطقة والعالم، ونظرته التعريفية إلى الأصدقاء والأعداء.
القصة قصة قلوب ملآنة. لذلك لن يكون ممكناً إجراء أي نقاش هادئ على المحكمة والاعتبارات القانونية والدستورية المتحكّمة بدراستها وبتّها وصلة ذلك بالتفاوض مع الهيئة الدولية. نذهب أبعد فنقول إننا سنكتشف مدى وهمية الإجماعات التي نشأت في السابق من مؤتمر الحوار إلى 1701 مروراً بالنقاط السبع وغيرها.
لقد دخلت المسوّدة والملاحظات عليها والردود على الملاحظات، فوراً، في خانة المعركة السياسية المحتدمة. ومن الواضح أن الذين أحرجتهم دعوة الرئيس نبيه بري التشاورية سيقفزون على المناسبة. لقد وجدوا حصان المعركة الهجومية التي يريدون خوضها والقابلة لأن تُحدِث قدراً من الاستنفار يحتاجون إليه.
يمكننا أن نتوقع «كلاماً كبيراً» هو من النوع الذي يصدر عن «إسقاط المقدّسات»، وكانت «الحقيقة» واحدة منها. لا مقدّس هنا ولا مقدّس هناك. حرية الاختلاف وحدها هي المقدّسة وهي، كما نرى، ذاهبة إلى أقاصٍ لا ينفع معها تشاور.