باريس ـــ بسّام الطيارة
يسود في أوساط القرار الفرنسي صمت مطبق منذ زيارة رئيس تيار المستقبل سعد الحريري، واكتفت باريس منذ يومين بالتلويح بإمكان «حصول تغيير في موقف الحكومة الروسية من مسألة المحكمة الدولية» ولا شيء غير ذلك! فماذا تحضّر باريس من مفاجأة؟

هناك تطورات كثيرة كان يمكن باريس أن «تقول كلمتها فيها»، كما يتحسر متابع للدبلوماسية الفرنسية. ويضيف إن «الحكومة الفرنسية وقعت في فخ تصديق الشراكة مع واشنطن في الشرق الأوسط».
ويتفق المراقبون على أن الحكومة الباريسية تعيد حساباتها بعدما ظهر عجزها في عدم القدرة على ردع الطيران الإسرائيلي عن «التحليق في سماء لبنان وفوق هوائيات اليونيفيل وتهديد البوارج الفرنسية والألمانية». وفي هذا السياق، تحدث أكثر من متابع عن «جرح الكبرياء العسكرية الفرنسية» بعد تصريحات المسؤولين الإسرائيليين عن «حدود مهمة القوات الدولية».
ويرى هؤلاء المراقبون أن هناك «شبه اتفاق على أسباب العجز الفرنسي الذي يعود إلى فترة التحضير للقرار ١٥٥٩. ويرى البعض أن أهمّ هذه الأسباب ثلاثة: الصبغة الشخصية التي لوّن بها جاك شيراك الملف اللبناني، ورغبة شيراك في إعادة وصل ما انقطع مع بوش بسبب حرب العراق، وأخيراً عدم الأخذ بالاعتبار لتقارير جهات رسمية وغير رسمية (منها شخصيات مسيحية بعيدة عن الحقل السياسي) نبهت إلى أن الوضع في لبنان على الأرض يختلف تماماً عما ينقله من معلومات «من تستقبلهم باريس»، وحذرت الجهات العليا من الوقوع في «ما يشبه ساندروم جُلبي لبناني» يقود إلى تقويم معوج للواقع. وقد زادت هذه التنبيهات بعد «قطع حبل التواصل مع عون».
ويقول مصدر مقرب من جهات عليا تراقب بحذر التحول في السياسة الفرنسية إن الأميركيين صوّروا لشيراك أن لبنان وسوريا هما منطقة نفوذ له من دون منازع، وإن كل المطلوب «هو توضيب شؤون البلدين» بالطريقة التي تراها فرنسا مناسبة بشكل لا يعاكس الاستراتيجية الأميركية في المنطقة، ويحافظ على هدوء الجبهة مع إسرائيل والجبهة على الحدود السورية العراقية. وكان ذلك في الفترة التي سبقت القرار ١٥٥٩. ويؤكد البعض اقتناعهم بأن «كل ما جرى بعد ذلك القرار كان مترابطاً بشكل لم يستطع شيراك معه سوى الركض وراء الحدث من دون أن يكون له أي دور في التخطيط له» من القرار ١٥٩٥ إلى القرار ١٦٦٤. ويفسّر ذلك التصلب الذي كان يصبغ الدبلوماسية الفرنسية خلال المناورات قبل هذه القرارات وبعدها.
ويتفق جميع محدّثينا على أن «الحرب المفاجأة»... فاجأت أوساط القرار في باريس (التي كانت أصلاً مرتبكة بقضية الجندي الأسير شاليط الفرنسي الأصل)، وخصوصاً عندما فهمت أن القرار الأميركي هو بالذهاب بعيداً بالحرب حتى ولو قلب هذا موازين القوى التي كانت باريس تحاول تركيبها. ويقول مصدر إن الدبلوماسية الفرنسية كانت أمام خيارين لا ثالث لهما بعدما راقبت مجريات الحرب وما رافقها من مباحثات مكثفة وانفضاح اللعبة الأميركية التي كان يمكن أن تكون إحدى نتائجها... إخراج فرنسا نهائياً من منطقة الشرق الأوسط ونهاية «الدبلوماسية الفرنسية العربية».
ويتفق عديد من المراقبين على أن مؤتمر روما كان نقطة الفصل بين دبلوماسية فرنسية تسعى لتحقيق أهداف خاصة بها وبين دبلوماسية تحاول ألا تتحقق أهداف الإدارة الأميركية على حساب مواقع فرنسا. ومنذ هذا الفاصل التاريخي، ظهر التردد مع بعض من التصلب السطحي يغلب على المواقف الفرنسية. وكانت واشنطن تسعى دائماً إلى «حفظ ماء وجه باريس مع دفعها أكثر فأكثر في اتجاه يبعدها عن دبلوماسيتها التقليدية». وكان العالم شاهداً على ذلك عدة مرات: عند قبول فرنسا مسودة القرار ١٧٠١ قبل أن تعود «وتستفيق لمطالب لبنان»، ثم قرارها بعدم المشاركة في قوات الأمم المتحدة قبل أن تغير رأيها لتشارك بألفي جندي. ويقول متابع «لكن في كل مرة كان قبولها يصب في سياق الأهداف الأميركية، أو على الأقل لم يكن يعاكسها».
ولكن «آخر ضربة» تمثلت في «مسألة حظر الطيران والخروق الإسرائيلية». فقد خرجت تصريحات المسؤولين الفرنسيين لتلمّح بالتهديد لوقف الخروق، فكان جواب إسرائيل تحليقاً على مستوى منخفض فوق القوات الدولية، وإطلاق نار فوق بارجة ألمانية، قبل أن تعتذر وتؤكد في الوقت نفسه أن الخرق لن يتوقف. وكما في الأمور الأخرى «اصطفت الدبلوماسية الفرنسية» وراء الحجج الأميركية، إذ إن الناطق الرسمي لوزارة الخارجية وصف الأمر بأنه «معاكس للقرار ١٧٠١ روحاً ونصاً»، إلا أنه استطرد قائلاً بأن معالجة هذا الأمر لا تتم بالقوة «فالصواريخ التي تحملها قوات اليونيفيل هي فقط للحماية الذاتية». وتابع بضرورة الأخذ ببعض الإجراءات مثل «مراقبة تطبيق حظر دخول الأسلحة، بما أن الإسرائيليين يتحجّجون بأن المراقبة غير كافية، وأنهم بحاجة إلى الإبقاء على نظام مراقبة خاص بهم». ويرى مراقب أن فرنسا، باعترافها «بوجود رابط طبيعي بين خرق الطيران ومراقبة تهريب الأسلحة إلى لبنان»، تقف مرة أخرى في عربة السياسة الأميركية التي ترى في خرق الأجواء «جزءاً من عملية حماية أمن إسرائيل».
ويقول مصدر مسؤول إن واشنطن ما زالت بحاجة إلى باريس. فالأيام مقبلة على ملف المحكمة الدولية، وتفضّل واشنطن إبقاء فرنسا في الواجهة، وخصوصاً أنّ المؤشرات تدل على التوجه إلى محكمة دولية يقرها مجلس الأمن بقرار ملزم من دون إبرام معاهدة مع لبنان.