نقولا ناصيف
رغم التهدئة التي يشيعها أفرقاء النزاع في المواجهة التي يخوضونها على موضوع تأليف حكومة وحدة وطنية، ولكن من دون تخليهم عن مواقفهم المسبقة منه والتشدّد في رفض وجهة نظر الفريق الآخر، ثمة مسألة دقيقة يبحثون فيها بقلق واهتمام، كل على طريقة، هي المرجعية الأمنية التي ستُناط بها مراقبة حركة الشارع عندما يعتزم الطرفان المعنيان، «حزب الله» وحليفه الرئيس ميشال عون، وقوى 14 آذار، الاحتكام إليه لإسقاط حكومة الرئيس فؤاد السنيورة أو الدفاع عنها. وكانت قيادة الجيش موضع اتصالات ومشاورات أجراها معها هؤلاء الأفرقاء في الأسبوعين الأخيرين، وتركّزت على المعلومات الآتية:
1 ـ استمزجت قوى 14 آذار قائد الجيش العماد ميشال سليمان رأيه في ما سيكونه دور الجيش إذا نزل أنصار طرفي النزاع الى الشارع وأضحوا وجهاً لوجه. وكان المقصود التأكد من وقوف المؤسسة العسكرية إلى جانب الفريق الآذاري. كان جوابه: سيتصرّف الجيش على نحو ما فعل في 14 آذار 2005 عندما سمح للمتظاهرين بالتجمّع في ساحة الشهداء خلال مسارب مكّنت هؤلاء من اجتياز حواجز الجيش وآلياته، خلافاً لقرار حكومة الرئيس عمر كرامي التي كانت قد منعت التظاهر. وقرن العماد سليمان موقفه هذا بواقعة أخرى هي ما فعله الجيش عندما باشر تنفيذ القرار 1701 بالانتشار في الجنوب، ففرض الأمن والاستقرار وبسط سيطرته على المنطقة كلها من دون الاصطدام بالمقاومة، لأن ليس للجيش أن يدخل في مواجهة مع اللبنانيين، والأحرى ألا تكون مع المقاومة.
موقف قائد الجيش تبلّغته قيادة «حزب الله» وقوى 14 آذار.
كان الأمين العام لـ«حزب الله» السيد حسن نصر الله قد تبلّغ كلاماً مماثلاً من العماد سليمان عندما زاره الأخير، بعيداً عن الأضواء وفي خطوة لم يُكشف عنها في شهر رمضان الفائت واطمأن الى سلامته بعد الحرب الإسرائيلية على لبنان. في هذا اللقاء أجاب قائد الجيش عن سؤال وجهه إليه نصر الله حول موقف المؤسسة العسكرية إذا احتكمـــــــــت المعارضــــــــــــة إلى الشارع في صراعها السياسي مع الغالبيـــة الحاكمــــــــــة، فأكد له أن الجيش سيمنع الشغب والتعرّض للمؤسســـــــــات الدستورية والوطنية من أي جهة أتى الاعتداء، ولكنه لن يمنـــــــــــع الناس من ممارسة حقهم في التظاهر والاعتصام. وسيكـــــــــــــــرّر ما فعله يوم 14 آذار 2005.
2 ـ يسود رأي في أوساط رفيعة المستوى في قوى 14 آذار بصفتها الغالبية الحاكمة، في ضوء ما تبلّغه هذا الفريق من العماد سليمان، مؤدّاه أن يتخذ مجلس الوزراء قراراً بتكليف الجيش حفظ الأمن في المناطق التي سيشملها التظاهر والاعتصام، والإعلان عن حال طوارئ جزئية في محيط الأماكن التي تقع فيها مؤسسات دستورية يُعتقد أن المتظاهرين ربما أقدموا على الاقتراب منها لفرض ضغوط على الحكومة والغالبية. وجاء هذا الاقتراح في خلاصة استنتاج هذه الأوساط أن قوى الأمن الداخلي، وحدها، ربما تكون غير قادرة على مواجهة الموقف، لأسباب أولها أن فريقاً رئيسياً من المعتصمين والمتظاهرين يعدّها طرفاً في النزاع لموالاتها فريق الغالبية، وثانيها أن نتائج الصدام الأخير بينها وبين بعض أهالي الرمل العالي لم يبرد احتقانه بعد، وثالثها أن قدراتها وتسلّحها لا يمكّنانها من حمل عبء المواجهة منفردة. وقرار تكليف الجيش القيام بالمهمة سيضعه أمام الأمر الواقع.
3 ـ أن قرار النزول إلى الشارع نهائي وقاطع ولا رجوع عنه بالنسبة إلى المطلعين على موقف نصر الله. وهو ينتظر نتائج جولة الإثنين المقبل من طاولة التشاور ليعلن صفارة الإنذار بالنزول إلى الشارع أو صرف النظر عن هذا الخيار إذا توصلت هذه الجولة وفي الأيام التالية إلى الخوض جدياً، وتفصيلياً، في تأليف حكومة الوحدة الوطنية. ومع أن أوساطاً وثيقة الصلة بقيادة الحزب تتحدّث عن تنسيق كامل مع الرئيس ميشال عون في هذا الصدد، فإن أياً من اجتماعات وضع آلية التحرّك في الشارع لم تبدأ بعد. ويقول المطلعون على التحرّك الذي يعتزم «حزب الله» قيادته في الشارع أنه تدريجي وتصاعدي. قد يبدأ بقطع طرق رئيسية وينتهي ربما بفرص حصار على المؤسسات الدستورية. يضيفون أنه اعتصام مفتوح سيؤول، في رأيهم، أياً يكن ردّ فعل الفريق الآخر، إلى استقالة الحكومة عبر تعطيل آلة الحكم كلياً.
4 ـ ما يبدو حاسماً وقاطعاً لدى قائد الجيش هو أن الجيش لن يواجه مواطنين ولن يُطلق النار على أحد. وقد تكون التجربة التي خبرها العماد سليمان في 13 آذار 2005، عشية تظاهرة 14 آذار، خير معبّر عن المنحى الذي يقوده الرجل.
فمنذ ظهر 13 آذار ذلك العام، تلقى اتصالات هاتفية متكررة من رئيس الجمهورية إميل لحود ورئيس جهاز الأمن والاستطلاع في القوات السورية في لبنان آنذاك العميد رستم غزالي كي ينفّذ الجيش قرار حكومة كرامي منع التظاهر ومواجهة المتظاهرين بالقوة إذا اقتضى الأمر، وأربكته محاولة دفعه إلى صدام محتمل مع لبنانيين، ما حمله، في حوار مع أحد معاونيه القريبين، على التلويح بالاستقالة من قيادة الجيش إن هو ظل يواجه عدم تفهّم السلطة السياسية لدور الجيش وموقعه الحساس والمعقّد في التركيبة الوطنية والطائفية اللبنانية ومسؤوليته عن حفظ الأمن والاستقرار وكذلك النظام.
مساءً أوفد مدير المخابرات العميد ريمون عازار ومدير مكتبه العميد وفيق جزيني إلى نصر الله ورئيس المجلس نبيه بري لإطلاعهما على أمر قد تترتب عليه خطورة بالغة تعرّض البلاد لمزيد من المواجهات غير المحسوبة النتائج. كان جواب نصر الله للضابطين أنه ضدّ صدام بين الجيش والمتظاهرين إلا إذا اكتشف الجنود عناصر شغب أو مسلحين، وتمسّك بحرية التعبير عن الموقف. أما بري فأيّد الموقف نفسه من حق التظاهر وحرية التعبير وطلب من قائد الجيش تفادي كل ما من شأنه التسبب بإطلاق نار على الناس. واقتصرت مآخذ رئيس المجلس على «خيمة الحرية» التي كانت منصوبة حينذاك في وسط ساحة الشهداء، مقترحاً إيجاد حل لها في مرحلة لاحقة.
إثر عودة الضابطين وإبلاغهما القائد موقفي بري ونصر الله، أمر ، في الثامنة مساء، الوحدات العسكرية المنتشرة في محيط ساحة الشهداء بعدم التعرّض للمتظاهرين إذا هم تجاوزوا حواجز الجيش. ظلّ الجيش ظاهراً، ملتزماً تعليمات الحكومة اللبنانية، ولكنه ترك مسارب للمتظاهرين يعبرون منها إلى أماكن تجمّعهم في ساحة الشهداء.
كان قد حظي بغطاء زعيمي قوى 8 آذار، بري ونصر الله، تفادياً لأي ردّ فعل على تساهل حيال قوى 14 آذار التي كانت قد دخلت في مواجهة حاسمة مع حكومة كرامي، السلطة الدستورية التي كان يأتمر بها الجيش.