جوزف سماحة
افتتح عدوان تموز الإسرائيلي مرحلة جديدة في تاريخ لبنان. يفترض بجلسات التشاور البادئة اليوم أن تحدّد لنا معالم هذه المرحلة.
كانت الأزمة كافية عشيّة 12 تموز. أو لنقل إن عناصرها المتجمّعة منذ صدور القرار 1559 كانت تحتاج إلى صاعق تفجير. ولقد تأكد ذلك من أن الحوار الوطني تعثّر. توصّل إلى توافقات يحتاج تنفيذها إلى طرف ثالث، وعجز عن الحسم في ما يمكن للبنانيين وحدهم تطبيقه. فالمحكمة الدولية لا يكفيها التوافق المبدئي الداخلي ما دامت رهناً بتفاوض مع مجلس الأمن وضمن هذا الأخير وتحتاج إلى بلورة على صعيد «التفاصيل». وترسيم الحدود مع سوريا ينتظر موقفاً سورياً. ومصير شبعا والأسرى وخريطة الألغام في يد إسرائيل. والسلاح الفلسطيني في عهدة منظمات، ومرتبط بتطورات فلسطينية ــ فلسطينية. يبقى موضوع الرئاسة الأولى. هنا اتفق اللبنانيون على أنهم مختلفون. وتبقى، أيضاً، الاستراتيجية الدفاعية. استمرت قيد البحث.
حصل العدوان. انصرف «حزب الله» إلى المقاومة مدعوماً، سياسياً، من حلفاء متحمّسين له أو مغلّبين، فعلاً، ضرورة التضامن على أي نقد. وسارت الأكثرية الحكومية والنيابية في خط آخر. ولقد تدرّج هذا الخط من رفع لواء «المحاسبة»، إلى المطالبة بإهداء الانتصار إلى الدولة، واستقر على الدعوة إلى عدم جواز العودة إلى ما قبل 12 تموز.
الاستقرار على الشعار الأخير هو تعبير عن صيغة لبنانية للتلاؤم مع الموقف الأميركي خلال العدوان. وخلاصة هذا الموقف أن وقف إطلاق النار ليس مهمّاً ولا أولوية إذا لم يترافق مع إيجاد وضع جديد يحول، لاحقاً، دون اندلاع أي قتال.
لم تخفِ الأكثرية مرّة أن هذا هو طموحها وإن كانت لم تتورّط، عبر أطرافها كلها، في التعبير العلني عن الرغبة في تأجيل وقف النار.
رأت هذه الأكثرية أن الأدوات الحائلة دون العودة إلى ما قبل 12 تموز هي القرار الدولي 1701 بتفسير متشدّد له، والقراءة الخاصة لدور القوات الدولية المعزّزة، ونشر الجيش في الجنوب، وحصر قرار السلم والحرب بيد السلطة، وأحادية السلاح، ومحاصرة المقاومة، والتصرّف بالتعويضات لإنشاء ميزان قوى جديد على صعيد وطني وضمن الطائفة الشيعية، و«الاستفادة» من الحرب لتجديد حملة تحرير الاقتصاد اللبناني واستمالة فئات من البورجوازية...
كان واضحاً أن الطموح الأكثري ليس الاحتفاظ بالحكومة كما هي فحسب، بل تعطيل أي مساهمة خاصة لوجود «حزب الله» فيها، وتوظيف العوامل الدولية والعربية، من القرارات إلى المؤتمرات إلى المحكمة، للدفع باتجاه حسم موضوع الرئاسة الأولى وصياغة العلاقة مع سوريا.
باختصار، وظّفت الأكثرية العدوان لرفع شعارها: لا عودة إلى ما قبل 12 تموز.
إلا أن فشل العدوان أدى إلى دفع القوى التي راهنت على صمود المقاومة إلى أن ترفع، بدورها، شعار «لا عودة إلى ما قبل 12 تموز». ويعني هذا الشعار بالنسبة إلى هذه القوى أنها تأخذ في الاعتبار التطورات وتسلّم بها وفق منظور معيّن، وخاصة ما يتعلق منها بتطورات الوضع في الجنوب (انتشار الجيش والقوات الدولية). لكنه يعني أيضاً أنها لن تستطيع، أيضاً، تجاهل التطورات السياسية التي برزت خلال العدوان وأبرزها التنكّر للبيان الوزاري، واستكمال القضاء على «التحالف الرباعي»، واتضاح التباين بين مكوّنات الحكومة الحالية التي تلتقي أهداف البعض منها مع أهداف العدوان الموصوف بالهمجي والغاشم.
لقد نشأ اصطفاف جديد للقوى. لا بل لقد تدعّم اصطفاف كان آخذاً بالنشوء، بحيث بات مستحيلاً عدم التعبير عنه بالعلاقة مع مؤسسات السلطة. لم يعد الخيار إلا بين حكومة تضم الجميع، وخروج من الحكومة يدفع إلى الحد الأقصى نهج الاستئثار والالتحاق و... التأزم. بكلام آخر وجدت المقاومة نفسها في موقع الاضطرار إلى تطويق الآثار الميدانية في الجنوب، حيث لا عودة إلى ما قبل 12 تموز، بإحداث تغيير سياسي مطمئن في بيروت، حيث لا تجوز العودة إلى ما قبل 12 تموز أيضاً.
إن هذا هو الجوهري في «التشاور»: من جدول الأعمال، إلى المهلة، إلى الاختلاف على الأولويات، إلى الاستعانة بالشارع، إلخ...
اللبنانيون أمام نهجين متعارضين يرفعان لافتة واحدة: لا عودة إلى... لذا يمكن القول إن لبنان الذي سيخرج من التشاور هو غير لبنان لحظة دخوله عصر العدوان الإسرائيلي الأخير. إذا لم يوصل التشاور إلى توافق وتسوية فستزداد الأزمة عمقاً. وإذا أوصل التشاور إلى توافق وتسوية فلن يتعدّى الأمر نقل الخلافات إلى داخل المؤسسات حتى لا تنفجر خارجها. سيسمّى ذلك، تجاوزاً، حكومة «الوحدة الوطنية» ولكنه، في الحقيقة، «غرفة صدى» لانقسامات ليست في وارد الاختفاء قريباً.