عمر نشابة - حسن عليق
الدلالة الأهم للحوادث الأمنية الأخيرة هي أن أمن المواطن غير مضمون، وأن كل ليلة يمكن أن تحمل إلى اللبنانيين قنابل صوتية أو متفجرة. وتقوم القوى الأمنية بجهود حثيثة للسيطرة على الوضع لكن هل ستؤدّي المنهجية الأمنية المتّبعة الى نتائج فعّالة تعيد الطمأنينة الى الناس؟

خمسة عشر تفجيراً إرهابياً تعرّض لها لبنان خلال عامي 2004 و 2005، ساهمت بشكل كبير في قلب الموازين السياسية في البلد. أمل المواطنون قضاء فترة من الاستقرار الأمني لكن الواقع لم يكن كما يرتجى، إذ شهد عام 2006، حتى الآن عدداً من الأعمال الإرهابية أبرزها، قبل عدوان تموز 2006، تفجيران، استهدف أحدهما الأخوين مجذوب في صيدا. وتوجهت أصابع الاتهام حينئذ إلى المخابرات الإسرائيلية، تم بعدها بمدة قصيرة إلقاء القبض على شبكة محمود رافع المتعاملة مع العدو وتحدثت نتائج التحقيقات الأولية عن علاقة هذه الشبكة بالتفجير المذكور. أما التفجير الثاني، فقد استهدف المقدّم في فرع المعلومات في قوى الامن الداخلي سمير شحادة، وأدى إلى استشهاد أربعة من عناصر الفرع المذكور.
بعد عدوان تموز، بدأت سلسلة من التفجيرات مختلفة عن سابقاتها، استهدف أولها مبنى العسيلي في وسط بيروت ثم ثكنة الحلو مرتين وبعد ذلك ثكنة بربر الخازن في شارع فردان ومحلة الرملة البيضاء، وكان آخرها ـــ أول من أمس ـــ استهداف مقر فصيلة قوى الأمن الداخلي في الطريق الجديدة.
تميزت أربعة من التفجيرات المذكورة باستهداف مباشر لمراكز تابعة لقوى الأمن الداخلي، أما حادثة مبنى العسيلي فاستهدفت منطقة يقع في نطاقها مبنى مجلس النواب والسرايا الحكومية ومبنى الأمم المتحدة في بيروت إضافة إلى عدد من الوزارات والمصارف والمؤسسات الاقتصادية العامة والخاصة.
في مواجهة هذه التفجيرات، يبدو أن قوى الأمن الداخلي تعتمد أسلوب تحصين الأهداف المعروف أكاديمياً بـ(target hardening)، وهو يعتمد بشكل خاص على نشر عدد كبير من العناصر الأمنية في الشوارع وتثبيت كاميرات مراقبة إضافة إلى قطع طرق ووضع حواجز ومنع إيقاف السيارات حول الأماكن المحتمل استهدافها. ومن اللافت أن استهداف مقر قوى الامن في الطريق الجديدة أول من أمس، حصل ليلة حديث المدير العام لقوى الأمن الداخلي اللواء أشرف ريفي للصحافية هيام القرصيفي في صحيفة «النهار» عن أن قوى الأمن مستنفرة «بنسبة عالية» (عدد 22825 صفحة 4). يبدو أن هذا الاستنفار الذي تحدّث عنه ريفي، والمعتمِد بشكل خاص على الأسلوب أعلاه، بحاجة إلى مراجعة إما لناحية الاستراتيجيا الأمنية التي تتّبعها قوى الأمن أو لناحية التطبيق العملي لهذه الاستراتيجيا.
تحدث اللواء ريفي إلى «النهار» عن احتمال أن تكون الانيرغا الثانية على ثكنة الحلو «من الداخل». ويتساءل القارئ: هل كان اللواء ريفي يلمّح في حديثه هذا إلى خرق محتمل لصفوف قوى الأمن الداخلي؟ أم إن الإجراءات الأمنية المتبعة في الثكنات والمخافر لا تلبي الحد الأدنى المطلوب لحماية هذه المراكز؟ في اتصال مع «الأخبار» ليل أمس استبعد اللواء ريفي أن يكون هناك اختراق في صفوف المؤسسة التي يديرها وقال إنه يرجّح احتمال استهداف الثكنة من إحدى البنايات المجاورة. كما قال مصدر أمني رفيع إن القذيفة التي استهدفت الثكنة قد لا تكون من نوع «انيرغا» وإن التحقيقات لم تحسم هذا الشأن بعد.
قال اللواء ريفي منذ ثلاثة أيام إن «الأمن الحقيقي يقوم على التعاون الوثيق والعلاقات المميزة مع المواطنين». لكن العلاقة «المميزة» بين قوى الأمن والمواطنين أساسها الثقة وهي تبدو مفقودة حالياً، ولو توافرت الثقة لأغنت القوى الأمنية عن زرع شبكات مخبرين، إذ إن تحوّل كل مواطن لبناني إلى «مخبر» لقوى الأمن، يحصل مقابل معلوماته على ضمان الأمن الجماعي، وذلك قد يكون أفضل وأفعل من مجموعة من المخبرين تقابل معلوماتهم امتيازاتٌ فردية (كبطاقات تسهيل مرور مثلاً) لا تتناسب مع مبدأ المساواة بين اللبنانيين المكفول من الدستور اللبناني.
إن بناء هذه الثقة بين المواطن وقوى الأمن يتطلب تعديل العلاقة القائمة حالياً، وهي حسب مواطنين من طلاب وأساتذة جامعات ورجال أعمال قابلتهم «الأخبار» وسألتهم عن آرائهم بالقوى الأمنية اللبنانية، خاضعة لما سمّوه «التشبيح» من خلال السلاح الظاهر ومخالفات السير التي يقوم بها الأمنيون، حيث تكون «الخدمات وأولوية المرور دائماً لهم» والعناصر المدنية الذين يحملون السلاح بشكل ظاهر دون أي بطاقة تعريف تشير إلى أن السلاح «أميري». إن تغيير هذه الصورة عن القوى الأمنية يؤدي إلى تحويل قوى الأمن من جهاز عسكري (paramilitary) إلى جهاز خدمات أمنية مدنية (civil security services).
إن نظرة المواطن إلى رجل الأمن لا بد أن تتأثر أيضاً بأوضاع المباني من مخافر وثكنات، التي لا يليق أكثرها بمراكز يجب أن تكون في الدرجة الأولى مراكز لخدمة المواطنين. كذلك الأمر بالنسبة إلى المعاملات الادارية داخل قوى الأمن، حيث ما زالت المكننة غائبة تماماً عن المحاضر المكتوبة عادة بطريقة إنشائية.
الخطة الأمنية الحمائية، لا بد لها من فصل تام بين الامن والسياسة بمعناها الضيق، تطبيقاً لما قاله وزير الداخلية بالوكالة أحمد فتفت أخيراً عن حرصه على إبقاء قوى الأمن على مسافة واحدة من جميع الأفرقاء السياسيين، وحتّى تترجم هذه الأقوال الى أفعال يفترض بالوزير فتفت منطقياً تجنّب الإدلاء بتصريحات منحازة عن الجرائم قبل استكمال التحقيقات. فالوزير صرّح بعد استهداف مبنى العسيلي «أن هناك محاولة لإشعال فتنة أمنية بالبلد، وربما محاولة جر قوى الامن إلى صدام أو افتعال مشاكل في الداخل، في الوقت الذي تنتشر فيه القوى العسكرية الأخرى على الحدود». لم يساهم ذلك في طمأنة المواطنين، إذ كان على وزير الداخلية بالوكالة أن يترك التحقيق للقوى الأمنية والسلطات القضائية، كون تحديد دوافع الجرائم يتم من خلال دراسة دقيقة لنتائج التحليلات العلمية لا من خلال رأي وزير الداخلية أو السلطة السياسية.
ولا بد أن يترافق تحييد الأمن عن السياسة وتحسين علاقة قوى الامن بالناس مع تطوير القدرات التقنية والمخبرية التي تنقصها المهنية عند الامن الداخلي والشرطة القضائية وخاصة في مسرح الجريمة، كذلك الأمر بالنسبة إلى الطريقة المهنية في نقل الأدلة وموجودات مسرح الجريمة الى المختبرات الجنائية. ويشكل عدم خضوع مسرح الجريمة لجهة واحدة، وعدم حماية مسرح الجريمة بشكل دقيق، سبباً لإضعاف التحقيق من خلال إتلاف موجودات مسرح الجريمة التي تمثل عادة الأدلة الأولية لأي تحقيق.
في ظل الوضع الأمني غير المضبوط، حيث تشكل التفجيرات الأخيرة دليلاً على عدم فعالية الأسلوب الذي تعتمده قوى الأمن حالياً، تبقى أسئلة عدة، من حق المواطن أن يطرحها، بحاجة إلى الإجابة عنها، أهمها: كيف نحمي المواطن؟