جوزف سماحة
كما يُقال إن فلاناً ذاهب إلى القاهرة يُقال إن لبنان ذاهب إلى الهاوية. الهاوية اسم مكان قرر لبنان، على ما يبدو، أن يقصده. ومن يستمع إلى هذه العبارة يُخيّل إليه أن لبنان ذاهب إلى الهاوية من دون اللبنانيين. فبعض هؤلاء يتحدث عن الأمر كما لو أن البلد فكرة مفارقة تشعر بانجذاب خاص إلى الهاوية فتجدّ السير نحوها أو تستدعيها إلى عندها.
ليس معروفاً، بعد، ما إذا كانت جلسة التشاور الأولى خطوة نحو الهاوية أو خطوة بعيداً عنها. ليس واضحاً الذهاب من الإياب.

***
اللغة السياسية فقيرة. لم ينجح أحد في صياغة مصطلح آخر غير حكومة الوحدة الوطنية أو الاتحاد الوطني أو الوفاق الوطني. قيل مرة واحدة، وبصورة عابرة، إن حكومة من هذا النوع تشترط وجود وحدة وطنية مسبقة. هذه الوحدة غير موجودة عملياً وإلا لما كان ثمة مبرر لهذه المعركة السياسية الشرسة من أجل تأليف حكومة بهذا الاسم. ثم إن المنطق يقتضي القول بأن المعادلة القائلة بحكومة الوحدة الوطنية أو الفوضى تعني أن الوحدة المشار إليها تعاني الكثير. ربما كان الأجدى الحديث عن «حكومة التسويات الوطنية» أو «حكومة التمثيل الصحيح»، أو «الحكومة ــ المرآة للانقسامات اللبنانية». هذه التسميات الأخيرة أصدق تعبيراً عن الحالة الواقعية التي نعيش وعن الحل المقترح لها.

***

لو لم نقع في خطأ التسمية لكنّا وفّرنا على الناطقين باسم الأكثرية النيابية والحكومية الجهد الذي يبذلونه في تبرير الرفض. فمن أبرز الحجج التي يلجأون إليها هي تكرار الاستغراب من اتهامهم بالتآمر والعمالة ودعوتهم إلى قبول المشاركة في حكومة وحدة وطنية. ما يمكن قوله، في هذا المجال، أنه لا أحد استخدم «التآمر» و«العمالة» في وصف سلوكهم. استُخدمت كلمات أكثر دقّة تشير إلى التلاقي الموضوعي بين أهدافهم وأهداف قوى خارجية. هذا أولاً. أما ثانياً فإن في الإمكان إثبات أن الأكثرية هي التي بادرت إلى اتهام شريك لها في الحكومة بأنه «أداة في محور». ثالثاً، وأخيراً، فإننا نشهد انزلاقاً في المضمون المعطى لعبارة «كيف يتهموننا بالعمالة ويطلبون الوحدة معنا». فتدريجاً لم يعد القصد هو الاستهجان واكتشاف التناقض في أطروحة الطرف الآخر. بات القصد هو تنزيه هذا الطرف عن الرغبة في مشاركة عملاء السلطة. بمعنى آخر يبدو، أحياناً، أن قوى في الأكثرية لن تتردد في رفع لواء العمالة إذا كان هذا هو الشرط الكافي للاستئثار بالسلطة ودفع الآخرين نحو رفض التمرّغ في وحولها.
ندفع، هنا، ثمن الخطأ اللغوي. لو قيل، من البداية، إن المطلوب «حكومة تسويات وطنية» لسقطت الحجّة المشار إليها.

***
تطورت مواقف قوى في الأكثرية نحو الموافقة على فكرة «إعادة تأسيس السلطة». فهناك غير صوت بينها يعلن دعم المسار التالي: انتخاب رئيس جديد للجمهورية، تأليف حكومة اتحاد وطني، وضع قانون انتخابي جديد، إجراء انتخابات نيابية مبكرة. ويأتي هذا الاقتراح رداً على ما تطرحه المعارضة من مسار: حكومة وفاق وطني أو حكومة انتقالية، قانون انتخابي جديد، انتخابات نيابية مبكرة يليها انتخاب رئيس جديد للجمهورية.
قد يكون صعباً شرح الفروق لمراقب أجنبي إلا أنها شاسعة. الاقتراح الأول يعني الاستفادة القصوى من الوضع الراهن والتأسيس عليه بصفته الأصدق تعبيراً عن إرادة المواطنين. الاقتراح الثاني يعطي المواطنين حق الحسم عبر دعوتهم السريعة إلى الاختيار على أن يتم البناء فوق ذلك.
يمكن القول إن حجة الأكثرية أقوى دستورياً إذ إن الانتخابات النيابية لم يمر عليها الزمن وليس من علامات الاستقرار الدعوة إلى اقتراع عام في كل مرة يتحوّل فيها المزاج الشعبي. إلا أن حجة المعارضة أقوى سياسياً وأخلاقياً بحكم ما جرى بعد الانتخابات وبعد الحرب الإسرائيلية. في السجال في هذه الأولويات تسجّل المعارضة نقطة لمصلحتها.

***

منذ أن خرجت إلى العلن نظرية «الثلث المعطّل» أو «الثلث الضامن» وألسنة «الآذاريين» تبرع في وصف المقصود من ذلك: تعطيل العمل الحكومي، التحكّم ببقاء الوزارة أو استقالتها، إسقاط المحكمة الدولية، منع تطبيق القرار 1701، عرقلة عمل الدولة، الإمساك بمفصل القرارات الوطنية الكبرى، إلخ... يرد ذلك كله بصفته مضبطة اتهام ضد فريق متعطّش إلى السلطة وذي نيات تخريبية تتجاوز ما ورد آنفاً.
لا مبرر لهذه الحملة. المطالبون بـ«الثلث المعطّل» أو «الضامن» لا ينفون أياً من هذه الاتهامات إلا أنهم يسمّون ذلك: مشاركة فعلية في السلطة. يعلنون جهاراً نهاراً أنهم يودون الإمساك مؤسساتياً بموقع يسمح لهم بأن تكون كلمتهم مسموعة ورأيهم محترماً. إن هذا هو هدفهم وهم يدركون تمام الإدراك معناه. لذا قد لا يكونون متحمّسين لمجرد توسيع الحكومة وإنما بالضبط لتثبيت الاتهامات الموجّهة إليهم بأنهم ساعون إلى حق النقض.
لقد بالغ ناطقون باسم الأكثرية في البرهنة على فاعلية «الثلث المعطّل» إلى حد أنه يخيّل للمرء أنهم قد يندفعون في ذلك إلى حد عرض الثلثين على المعارضة مقابل احتفاظهم لأنفسهم بهذا «الثلث الثمين».