البترون ـ ريتا شاهين
تعاني زراعة الزيتون في الشمال إهمالاً كبيراً من الدولة والجيل الجديد الذي هجر أرضه. وجاءت هذا العام عوامل مناخية لتزيد خطورة الأمر.فهل سيعود اللبنانيون للوفاء لشجرة طالما كانت وفية لهم؟

حين نقول: «الزراعة في الشمال»، غالباً ما يتبادر إلى ذهننا الزيتون والزيت الخضير. إذ تُشكل أقضية البترون، الكورة وزغرتا نسبة 66% من مساحات الزيتون في لبنان، ممّا يجعلها بحق «خزان الزيت» للسوق المحلي ولبعض الأسواق الخارجية.
ورغم هطول المطر المبكر هذا العام، وهو ما يفيد الموسم وينضج الحبة لتصبح أكثر إنتاجاً للزيت، فإنّ المزارعين والملّاكين يواجهون أخطاراً عديدة، كقلّة اليد العاملة، والأسعار المرتفعة نسبياً التي يطلبها العمال (عشرون ألف ليرة لبنانية وما فوق ليوم القطاف الواحد)، وضيق أسواق التصريف والمزاحمة الأجنبية، إضافة للطقس الماطر طوال شهر تشرين الأوّل، شهر القطاف، ممّا حال دون التمكن من جمع الغلال.
لذا، يمكننا القول إننا أمام خطر حقيقي وسط استمرار الإهمال الحكومي للقطاع الزراعي، وغياب المعالجات الناجعة للمشاكل التي يواجهها هذا القطاع. ولا يكمن الخطر في تراجع هذه الزراعة والخوف من كساد الإنتاج فحسب، بل في تحوّل العاملين في هذا القطاع إلى عاطلين من العمل أو إلى مشاريع هجرة.
يرى المهندس الزراعي شهيد صفير أن الموسم لهذا العام جيد جداً، ونسبة «العقصة»، أي السوسة، قليلة جداً. لكن المشكلة التي طرأت أخيراً هي الطقس الماطر الذي لم يسمح للمزارعين بقطاف مواسمهم، إضافة إلى ندرة اليد العاملة، مبدياً تخوفه من الزيت المهرب الذي لم يظهر بعد، لأن المغرب يصدر إلى إسبانيا، أما سوريا وتركيا فلم ترسل بعد الزيتون والزيت إلى لبنان.
ويقول أبناء البترون: «لكي تكون القرية لبنانية، يجب أن تحتفظ بطابعها التراثي الهام، ومنه وجود «معصرة زيتون»، وخصوصاً «أن المواصفات الضرورية لوجود أشجار الزيتون متوافرة، كالمناخ والتربة والموقع». لذلك، يوصف الزيتون في الشمال بحبوب الذهب النقية، فيستعمل كغذاء ودواء. فكلما شعر أحدهم بألم في معدته يدهن المكان بالزيت فيشفى. وإذا آلمته معدته، يضع فيها نقطة فتشفى... وكذلك يستخدم للمحافظة على الشعر ومرونة العضلات.
المهندس جورج جحا، خبير برنامج الأمم المتحدة الإنمائي سابقاً، يشير إلى أن الشجرة المباركة بالنسبة للشماليين والكورانيين لم تعد كما في السابق المصدر الأساسي للحياة، رغم أنها حافظت على دورها مورد رزق هام ووحيد بالنسبة للبعض. وقد بدأت ظواهر الإهمال تتضح على البساتين، فيما تتسع الهوة بين الإنسان وأرضه. فالجيل الجديد يبتعد عن الأرض، ولا سبيل لعكس الاتجاه في الوقت الحاضر على الأقل. ويعيد جحا ذلك لعدة أسباب أهمها:
ارتفاع كلفة اليد العاملة غير المتوافرة محلياً، وهو ما يرفع كلفة الإنتاج ويعرقل التصدير، إهمال الدولة للفلاح، غياب المكننة والتخطيط، عدم مكافحة الحشرات المضرة والأمراض التي تصيب الزيتون بشكل فعال، عدم إيجاد أسواق خارجية لتصريف الإنتاج وعدم حمايته من المزاحمة الأجنبية في الأسواق المحلية، غياب للقروض الزراعية، وخاصة في مجال زراعة الزيتون، ارتفاع أسعار الأدوية الزراعية، انخفاض المردود الزراعي الذي لم يعد يغطّي التكاليف، وإغراق السوق بزيوت نباتية أبخس سعراً.
وربما كان التناوب في حمل الثمار من الأسباب الرئيسية وراء الإهمال الحاصل، وإن حل هذه المشكلة والحصول على موسم معتدل كل عام من شأنه أن يؤدي إلى وضع تنافسي وتفاضلي جيد لزيت الزيتون في الأسواق الوطنية والدولية.
وعن أسباب هذا التناوب، يشير جحا إلى كثرة التنظيرات في الموضوع، فمن قائل إن طبيعة الشجرة وتركيبتها الوراثية هي السبب، إلى رأي آخر يتعلق بطريقة القطاف باستعمال العصي «والشبيط»، وهو الأمر الذي يؤدي إلى تكسير الأغصان الفتية... لكن الأسباب الحقيقية ما زالت غامضة، ولا حلول عقلانية إلا بالاعتماد على الأبحاث العلمية الزراعية والتعاون الدولي في هذا المجال.
تحتاج هذه الزراعة البعلية القديمة إلى خطة عمل فعالة وإلى اهتمام كبير من الدولة كي لا تصل إلى الانقراض. ويؤكد العديد من المهتمين بهذه الزراعة وجوب تبنّي الدولة لمواسم الزيت والزيتون وحمايته من المنافسة وإقامة الندوات التوجيهية في القرى وعبر وسائل الإعلام ومطالبة مؤسسات تشجيع الاستثمارات في لبنان بالاهتمام بالزيت وتصريفه.