جوزف سماحة
التاريخ ماكر. لقد جمع في يوم واحد فرز الأصوات في نيكاراغوا الذي يشير إلى تقدّم دانيال أورتيغا وتوجّه الناخبين الأميركيين إلى صناديق الاقتراع، في ظل تقديرات عن تراجع جدّي يصيب الحزب الجمهوري. وإذا صدقت التوقعات في الحالين لا يكون التاريخ ماكراً فحسب بل ماكراً جداً وعادلاً جداً.
مضت 16 سنة على سقوط أورتيغا. إذا عاد فائزاً وتعرّض جورج بوش لهزيمة فهناك، في الإدارة، من سيعصر الألم والحقد قلبه. سيكون رائعاً أن ينظر المرء في عيون ديك تشيني ودونالد رامسفيلد وجون نيغروبونتي، وإليوت أبرامز، وجون بولتون، ومايكل ليدين، وروبرت كاغان وغيرهم. سيكون ذلك رائعاً لأنه سيقرأ في هذه العيون آثار التعثّر الحالي في العراق وارتداده على الداخل الأميركي وآثار عودة شبح الساندينيين من ماضٍ سحيق ليقضّ مضاجع هذا الحلف بين اليمين القومي الأميركي و«المحافظين الجدد».
كانت نيكاراغوا في الثمانينيات مختبراً مركزياً لعقيدة رونالد ريغان. لقد قرّر الرجل تسخين الحرب الباردة مع «امبراطورية الشرّ». كان رأيه أن في الإمكان كسر المقولة الزاعمة أن معسكر الاشتراكية والتحرّر الوطني والاجتماعي يتقدّم منذ الحرب العالمية الثانية من دون أن ينكفئ عن موقع. رأى أن فرض سباق تسلّح مكلف على موسكو، والقتال على الأطراف وفي العالم الثالث، سيفجّر تناقضات القلعة التي تبدو منيعة. لم يجد حرجاً في تجنيد الفاتيكان وأسامة بن لادن، ولم يتردّد في التحالف مع إسلام محافظ كانت المملكة السعودية رمزه. اهتم بـ«الحديقة الخلفية» للولايات المتحدة في الأميركيتين الوسطى والجنوبية وقرّر تصفية الحساب مع الثورة الساندينية التي كانت قد أطاحت الحكم الديكتاتوري المتعفّن لسوموزا. حاصر البلد، خالف قرارات الكونغرس، سلّح الكونترا ودعمهم، دفع نحو حرب أهلية موّلت الرياض جانباً منها، ونجح في إنهاك هذا البلد الفقير إلى حد جعله يانعاً من أجل أن يقطف «مقاتلو الحرية» رأسه.
يمكن القول، طبعاً، إن أخطاء أورتيغا ورفاقه ساعدت في توفير شروط السقوط ولكن يجب أن نسجّل لهم انسحاباً سلمياً من السلطة كان فاتحة ما عاد فتكرر، بعد عقد، في أوروبا الشرقية والوسطى.
كانت تلك المرحلة مرحلة ازدهار وتدريب وتمرين لعدد من العاملين في الإدارة. ففي تلك السنوات انعقد التحالف بين اليمين الوطني والتيار الأيديولوجي الذي مثّله «المحافظون الجدد» ونجح هذا التحالف في البروز بصفته القوّة التي أسقطت الاتحاد السوفياتي ووسّعت مدى الحرية في العالم. وما زال رجالات تلك الفترة ينظرون إليها بصفتها فترة ذهبية ويرون أن الرئيس الحالي يريد العودة إليها بعد «السنوات الصعبة» لبيل كلينتون أي السنوات التي يقولون فيها إنها «سنوات إجازة وسُبات».
من يستعد وقائع إسقاط الساندينيين فسيذهل لدرجة المماثلة مع وقائع التمهيد للحرب على العراق. لكن عليه أن يتذكر أن الرموز هم هم وأن البعض منهم تلقى أحكاماً تمنعه من ممارسة العمل العام لو لم يتدخل بوش الأب، لاحقاً، لإصدار عفو.
مضت سنوات وها هو أورتيغا يعود ليؤكد أنه يتمتع بقاعدة اجتماعية راسخة قد لا توازي أكثرية الشعب في نيكاراغوا ولكنها كافية لإثبات أنه لم يكن يمثّل تلك «العصابة المعزولة» التي قيل، يومئذ، إنه يمثّلها. غير أن أورتيغا ــ 2 هو غيره بالأمس. لقد اعتدل وانفتح. خلع الكاكي، لبس الأبيض. رفع شعارات «السلم والحب والوحدة». تخلّى عن قدر من التشدد الاقتصادي والاجتماعي كان يميّزه. مد يده إلى خصوم الأمس داعياً إلى «المصالحة». اهتم بأن يجد لنفسه مكاناً بين قادة اليسار في أميركا الجنوبية من كاسترو إلى لولا مروراً بتشافيز وموراليس من غير أن يعني ذلك أنه الأكثر جذرية بينهم.
نعم تغيّر أورتيغا إلا أنه بقي «مرشح الفقراء». وساعده على ذلك أن خصمه النيوليبرالي هو، بشكل فجّ، مرشح الأغنياء والشركات الكبرى. وبما أن التيار الثاني نال حقه من السلطة، وبما أن نيكاراغوا بقيت بلداً شديد الفقر، وبما أن الفارق الاجتماعي ازداد حدّة، فإن التصويت كان طبقياً من الدرجة الأولى وكان، أيضاً، صرخة رفض لفئات طحنتها الرأسمالية المتوحشة طحناً. ولا بد من أن نلاحظ، في هذا البلد، ما نلاحظه في نصف القارة الأميركية من اندماج جدّي بين المسألة الاجتماعية والمسألة الوطنية بحيث يكون التحرّر في مجال ما تقدماً في مجال آخر مع لمسة ثقافية موجودة على الدوام منذ المساهمة القيّمة التي أضافها ماركوس المكسيكي في تشاباس.
سيخرج في الولايات المتحدة من يقول إن الحدث هو نتيجة طبيعية لانصراف الاهتمام بالجيران نحو الشرق البعيد. هذا التقدير ليس صحيحاً. فالمشكلة هي في «طبيعة» هذا الاهتمام ووجهته. والدليل على ذلك أن أحوال السياسة الأميركية في البلدان التي تلقى اهتماماً ليست أفضل كثيراً. لقد شاء مكر التاريخ التقاء يوم نيكاراغوا بيوم الاستفتاء الأميركي على سياسة بوش في العراق. لم تكن النتائج واضحة حتى كتابة هذه السطور (كما يقال) ولكن المؤكد هو أن تراجعاً سيصيب الحزب الجمهوري وسيصيب، تحديداً، تلك البؤرة التي كانت وراء التآمر على الساندينيين ووراء احتلال العراق.