جان عزيز
اقفزوا! المركب مثقوب! هكذا تبدو صورة التعاطي مع الإدارة الأميركية الراهنة، على أرضها، كما على أراضي إمبراطوريتها. المؤشرات كثيرة والتداعيات أخطر. في أفغانستان عادت «الطالبان» لاعباً «سياسياً»، بلغة سياسة تلك الأدغال. في العراق «انتهت الحرب وخسرتها الولايات المتحدة»، كما كتب روبرت درايفوس، حتى إن صدام حسين وضع محرمة أنيقة في جيب سترته، وترك مصحفه، ووقف يتحدث عن «المصالحة بين العراقيين»، خوفاً من حكم الإعدام؟ بل لأن ثمة هامشاً بات يراه ممكناً لدور متوهّم، في ظل حشرة خلفاء جاي غارنر... من يذكره ويذكر مدة الأشهر الستة التي أعطيت لحكمه العسكري في بغداد، إنجازاً لإعادة البناء والجلاء، في حدود أيلول 2003؟!
في كوريا الشمالية صار التفاوض على القنبلة إنجازاً في ذاته، وسط استطلاعات تظهر أكثرية كورية جنوبية مؤيدة لفخر صناعة كيم يونغ ايل. في إيران بحث في كيفية شكر بوش على الخدمات المقدمة الى نظام الملالي، بعدما نجح هو حيث فشل أمناء الثورة في تصديرها. وفي أميركا الوسطى والجنوبية مشهد كامل قد يفرض على هوليوود العودة الى جزء خامس من «رامبو».
باختصار، قبل 15 عاماً لخّص كاريكاتور غربي صورة العالم، برسم للكرة الأرضية يلفها دخان أسود مندلع من حروب انهيار المعسكر الشرقي، وقبالتها يقف كارل ماركس، يداه في بنطاله، وهو يقول بلا مبالاة: «لقد كانت مجرّد فكرة». الكاريكاتور نفسه يصلح اليوم، مع رسم لبوش، أو تشيني، أو بيرل، أو كثيرين.
قبل 15 عاماً، كتب الغرب: مات ماركس، عاش آدام سميث. اليوم قد يكتب: مات فوكوياما عاش هانتنغتون. مع أن الأول سارع باكراً الى القفز من مركب رهانه: نهاية تاريخ وانتصار ليبرالية وتمدّد ديموقراطية من العالم البروتستانتي، الى الكاثوليكي فالأرثوذكسي، وها هو يستعد لملاقاة الإسلام... لوحة أجمل من أن تكون حقيقة. من أخطأ في تجسيدها؟ كثيرون، أولهم الإدارة في واشنطن، كما أجمع عتاة المحافظين الجدد في أحاديثهم إلى دايفيد روز في «فانيتي فير»،
قال له ريتشارد بيرل: «إن انسحاباً أميركياً يخلّف وراءه العراق في فوضى «دولة فاشلة»، ليس محتوماً بعد، لكنه يضحي مرجّحاً». كينيث أدلمان يصف إدارة بوش بأنها «الأكثر عدم كفاءة في زمن ما بعد الحرب العالمية الثانية». مايكل ليدين يسخر من تحكّم النساء في البيت الأبيض، «لورا، كوندي، هارييت مايرز وكارين هيوز». فرانك غافني يصف بوش بأنه «ليس رجل المبادئ الذي يثبت في ملاحقة ما يعتبره قضية محقة». دايفيد فروم يستنتج أن رئيسه لم يفهم الفكرة التي كتبها له عن «محور الشر»... وتكرّ لائحة القافزين من المركب.
لكن ماذا بعد؟
في منطقتنا يقول بيرل إن الانسحاب الأميركي من العراق سيؤدي الى «كل الفوضى التي يمكن للعالم أن يخلقها». ويضيف إليوت كوهين ترجيحه أن تكون النتيجة «زعزعة استقرار بعض الأنظمة التقليدية النوع، والتي لديها مشاكل أصلاً».
ولبنان؟ كثيرة هي التحليلات عن النتائج المرتقبة حيال «ثورة الأرز». وجلّها يقتصر على التغييرات في الموازين السياسية. أصلاً بواكير الإنذارات واضحة، من العودة الى التشاور، وكلام جنبلاط، وإقرار مبدأ تغيير حكومي ما، وصولاً الى التراجع عن الهيئة الناظمة للاتصالات في مجلس الوزراء، بعد مواجهة بين 18 جسماً لبّيساً وإميل لحود وحده!
غير أن عمق المسألة في مكان آخر، بعيداً عن تشكيلات الحكومة وتوزيعات المقاعد والحقائب، وحتى أبعد من المحكمة الدولية والقرار 1701، ما يفترض أن يعني لبنان، سطران من كلام كينيث أدلمان في القصة المذكورة نفسها. يقول: «إن فكرة السياسة الخارجية القوية (لواشنطن) لمصلحة الأخلاق، فكرة استعمال قوتنا للخير الخلقي في العالم، قد ماتت، لجيل على الأقل. بعد العراق «لن تعود (صالحة) للبيع».
قبل أعوام، وفي تفسير للعقد الأميركي السوري على رأس لبنان، ظل «لقاء قرنة شهوان» يكرر أن واشنطن رفضت إعطاء الاعتبار اللازم للصيغة اللبنانية، ورفضت الاعتراف بنموذجيتها لنشر الديموقراطية في المنطقة. بعد القرار 1559 قيل إن تغييراً حصل في الإدارة الأميركية، تقاطعت في تكوينه عوامل عدة معقّدة، واستمرّ طوال 4 أعوام، من رفض ساترفيلد العنيف لمشروع قانون محاسبة سوريا في صيغته الأولى (لولا)، حتى تحوّل فيلتمان رأس حربة في الاتجاه المعاكس. وبين الاثنين كان جهد كبير وحلم أكبر وكلام على استقرار يقوم على الديموقراطية، لا على الأنظمة، وعالم بأكمله حاضن للمشوار، كي لا يتحول مشروع «صوت واحد لرجل واحد لمرة واحدة».
اليوم، ثمة زلزال كبير يحصل في واشنطن. لا تختزله عملية إعادة احتساب أصوات فرجينيا، ولا وصول نانسي بيلوسي الى رئاسة مجلس النواب الأميركي، وهي من يرى جورج بوش خطراً على أميركا والعالم. ثمة زلزال عنوانه الأدقّ قول أدلمان إن أفكار المحافظين الجدد عن نشر الحرية والديموقراطية في العالم، صحيحة، لكن يجب وضعها في درج «لا يمكن ذلك»، وسط تساؤل تلك الأوساط «عما إذا كان تصدير الديموقراطية أمراً تجيد أميركا القيام به».
ماذا لو صحّ هذا الاتجاه؟ قد نكون أمام أميركا العودة الى «سياسات الاستقرار» و«الاحتواء»، المتعدّد هذه المرة، لكل أنظمة المنطقة وأطماعها وتلزيماتها. هل من يستعد لذلك في لبنان، دولة ورسالة؟ عمرو موسى أسدى نصيحة. جنبلاط يحاول التكيّف معها. لكن ثمة من لا يزال في زمن آخر، أو من لا يفهم الا لغة البورصة وأدبيات المقاولات.