نقولا ناصيف
النائب ميشال المر هو إحدى شخصيتين لبنانيتين مشهود لهما بذكاء الحساب السياسي. قبله كان النائب الراحل جوزف سكاف الذي بفضل حساب سياسي ذكي، أوصل سليمان فرنجية إلى رئاسة الجمهورية في 17 آب 1970 عندما أقنع «الحلف الثلاثي» و«تكتل الوسط» بأن كسر الشهابية يكون بصوت واحد أو إثنين حداً أقصى، إذا ترشّح فرنجية، ولا ماروني سواه. لا الرئيس كميل شمعون ولا العميد ريمون إده ولا الشيخ بيار الجميل، ولا حتماً المرشحون الموارنة التقليديون. وصحّ حسابه مساء ذلك اليوم. المر هو من هذا الطراز من السياسيين، ويكاد يكون الوحيد بين الطبقة السياسية الحالية من «لبنان القديم» منذ ترشّح للانتخابات النيابية للمرة الأولى عام 1960. كان شهابياً حتى 1964، و«حلفياً» حتى 1970، وشهابياً بين 1976 و1982، وحليفاً لسوريا بعد 1985. عابر الفصول والعهود. وبسبب ذلك وُصِفَ دائماً بأنه «مصلح» ما اعتاد أن يفسده نائب الرئيس السوري (سابقاً) عبد الحليم خدام بين الرؤساء الثلاثة، أو حتى عندما يختلف هؤلاء على تقاسم الحصص في السلطة. وظل دائماً حليفاً موثوقاً به من دمشق. وحساباته السياسية والانتخابية كانت صائبة بمعزل عن الوسيلة والغاية في آن واحد. في الغالب يستمد وصفات حلوله من تاريخ السياسيين والعهود. وربما بسبب هذه المواصفات طلبت منه طاولة التشاور البحث عن الحل المستعصي لتقديمه إليها في جولتها الثالثة اليوم.
وأياً يكن الحل الذي عمل له المر أمس، فإن المشكلة باتت أكبر من الحل نفسه، وأكبر من مقدرة الزعماء على تجاوز المآزق التي وضعوا أنفسهم فيها جرّاء تصلّبهم. وبحسب قطب بارز إلى طاولة التشاور، أتى الطرف الآخر («حزب الله» والرئيس ميشال عون) إلى التشاور لفرض الخيار الذي يريده هو دونما مناقشته، أو كشف هواجسه أمام الآخرين. وهو يريد من الغالبية الثلث زائد واحداً في حكومة وحدة وطنية طواعية أو عبر الشارع. الأمر الذي ترفضه الغالبية.
ويكمن تعذّر الحل في أن ما عمل عليه المر أغضب الغالبية رغم تسليمها بالبحث في صيغة حكومية جديدة. وبحسب معلومات جهات تابعت تحرّكه، اقترح في مرحلة أولى المحافظة على العدد الحالي للحكومة، وهو 24 وزيراً، على أن يشمل التعديل أربعة مقاعد: ماروني (شارل رزق) وأرثوذكسيان (يعقوب الصرّاف وطارق متري) وأرمني (جان أوغاسبيان) كي يحلّ محلهم ثلاثة وزراء لعون ورابع لحزب الطاشناق حليف عون والمر. ومغزى هذه الصيغة انتزاع ثلاثة وزراء من الغالبية ورابع من رئيس الجمهورية. فتنتهي حكومة الـ24 بإفقاد الغالبية ثلثي المقاعد ليصبح وزراؤها 14 في مقابل خمسة وزراء شيعة وأربعة وزراء لعون وحلفائه، إلى وزير مستقل رِجل عند الرئيس إميل لحود وأخرى في الغالبية هو الياس المر، مع أن البعض يتحدّث عن إمكان إبدال المر الإبن بالمر الأب. علماً بأن النصاب الفعلي لقوى 14 آذار في حكومة الرئيس السنيورة اليوم يتخطى الثلثين إلى 18 وزيراً بعدما انضم رزق ومتري إلى حساب الغالبية.
وفي وقت لاحق من مشاورات النهار ذُكر أن المر طرح رفع عدد الوزراء الى 26، مضيفاً الى صيغة التعديل السابقة وزيراً كاثوليكياً هو النائب الياس سكاف وآخر درزياً هو النائب أنور الخليل الذي يصبح عندئذٍ هو «الزائد واحداً» في الثلث المعطّل. فلا يعطى هذا الامتياز للطائفة الشيعية ولا لكتلة عون، علماً أن الخليل هو عضو كتلة رئيس المجلس وعلى مسافة متساوية من رئيس «اللقاء الديموقراطي» النائب وليد جنبلاط.
بذلك جاء اقتراح المر يعطي الغالبية أكثر من مبرّر لرفض وساطة «الطبّاخ»، ولوضع طاولة التشاور اليوم على طريق المواجهة في الشارع.
والواقع أن تأييد قوى 14 آذار لوساطة المر لم يعدُ كونه أكثر من محاولة منح التشاور مهلة بسيطة لإجراء مراجعة بين أركان المعارضة تفضي إلى رفض قاطع لأي مسّ بالتوازن السياسي الذي قامت عليه حكومة السنيورة منذ تأليفها في تموز 2005.
واستناداً إلى ما يشير إليه القطب البارز إلى طاولة التشاور، تتركز مواقف الغالبية على المعطيات الآتية:
1 ـ إن تخليها عن الثلث زائد واحداً يعني تسليمها نهائياً بتحوّلها أكثرية وهمية وفق النعت الذي ساقه ضدها ولا يزال الرئيس إميل لحود وعون. وهي بذلك تفقد المصدر الوحيد للسلطة التي بين يديها، فيما يمسك الفريق الآخر برئاسة الجمهورية ورئاسة مجلس النواب. وهي إشارة صريحة، على كثرة التقريظ والمديح لبري، إلى أن الرجل في نهاية المطاف هو في المقلب الآخر من قوى 14 آذار. أما التبرير العملي لهذا الرفض فهو أن ثلثاً زائداً واحداً لا يعطّل قرارات مجلس الوزراء فحسب، بل يحول دون التئامه متى فقدت الغالبية نصاب الثلثين المفروضين للانعقاد.
أضف أن ثلثاً زائداً واحداً يؤول إلى تعزيز سلطة رئيس الجمهورية داخل مجلس الوزراء ويفك عزلته، ويحيله طرفاً قوياً بما يقفل له الثغر التي تنفذ منها الغالبية إلى بعض صلاحياته الدستورية المقيّدة، كالمادة 56. عندئذ يتسّلح لحود بدور وزراء المعارضة لتعزيز صلاحياته في فرض جدول الأعمال، كما في تأخير إقرار بنود لا يريدها بسبب تشتت فاعلية الغالبية، أو في «ترتيب» صراع قوى جديد داخل السلطة التنفيذية. تصبح المشكلة في حال كهذه بين وزراء غالبية عاجزة ووزراء أقلية فاعلة، لا في «أزمة حكم»، هي رئيس الجمهورية بالذات.
2 ـ إذ تقول قوى 14 آذار برفضها التنازل عن ثلثي نصاب الحكومة فإنها تُقابل ذلك باستعدادها للنزول إلى الشارع على غرار ما تلوّح به المعارضة. عندذاك، على الطرفين أن يتوقعا تحوّل المواجهة في الشارع مشكلة سنية ـ شيعية نظراً إلى حجم الانقسام في المواقف: فما يريده الأمين العام لـ«حزب الله» السيد حسن نصر الله هو ما يرفضه زعيم الغالبية النائب سعد الحريري. لكل منهما مفهومه للتوازن السياسي الداخلي ولمفهوم «الانقلاب» على السلطة. وكل منهما يشعر الآن بأنه، ربما، يخوض إحدى آخر معارك الدفاع عن موقعه في الحكم والشارع.
3 ـ يرى فريق الغالبية أن المخرج الوحيد الذي يجعله يتقبّل تخليه عن الثلث زائد واحداً هو انتخاب رئيس جديد للجمهورية الذي يقتضي لا تفاهماً على تأمين ثلثي البرلمان (86 نائباً) لالتئام جلسة الانتخاب فحسب، بل أيضاً، وقبل ذلك، التوافق على اسم الرئيس الجديد الذي يكون حينها ثمن تنازلات متبادلة يوجبها الثلثان المطلوبان، ويكون كذلك ضمان تأمين توازن سياسي في الحكم بين الأفرقاء والطوائف جميعاً. لكن هذه ليست وجهة نظر المعارضة، القائلة بأن الحصول على ثلث زائد واحداً يسبق انتخابات رئاسة الجمهورية، كون هذا الثلث هو الضامن الفعلي للمعارضة لا رئيس الجمهورية الذي سيكون بدوره تحت سيطرة الغالبية نفسها ما دامت هي التي تسيطر على الأكثرية المطلقة في مجلس النواب، وتتحكّم في تسمية الرئيس المكلف للحكومة وفي تأليف الحكومة الجديدة ومنحها الثقة. الأمر الذي يُبقي أزمتي الثقة والخلل قائمتين، وإن في ظل رئيس جديد للجمهورية يمسي عندئذ بين فكّي الغالبية والمعارضة. والواقع أن صورة الرئيس الضامن، والمرجع الموثوق به، لا تعدو كونها وهماً جعلته دمشق على امتداد عقد التسعينات من القرن الماضي وحتى العام الماضي حقيقة ملتبسة استمدت قوتها من وجود الجيش السوري واستخباراته العسكرية في لبنان، وتحت وطأة تدخّل دمشق في الحكم اللبناني ومؤسساته الدستورية.