جوزف سماحة
ساعات قليلة فصلت بين الإعلان عن هزيمة جورج بوش في الانتخابات النصفية وبين تعميم القرار بتنحية وزير الدفاع دونالد رامسفيلد. فرح كثيرون لسقوط الثاني. بين المسرورين نجد أنصار سلام، ومعادين للحرب على العراق، ومتخوّفين من الفشل الأميركي، وخصوماً شخصيين للرجل. كلنا نجد أيضاً، وهنا المفارقة، بعضاً من أبرز دُعاة الحرب، والمروّجين لها، والمحرّضين عليها، والمصرّين على استمرارها.
ليست هذه مفارقة في الحقيقة. فالدور الذي لعبه رامسفيلد في الأعوام الأخيرة ساهم في ستر التباين بين المحافظين الأميركيين التقليديين، وهو منهم، وبين «المحافظين الجدد».
تدلّ سيرة دونالد رامسفيلد على أنه كان، على الدوام، صقراً بين الصقور. إنه، بمعنى ما، الابن البار لتيار يميني أميركي متشدّد اخترق الحياة العامة أثناء «الحرب الباردة». كان، على الدوام، داعماً لأكثر السياسات تصلّباً حيال «العدو السوفياتي»، إلا أن ذلك قولب فكره ورؤاه وجعله ينظر إلى بلاده وإلى العالم من منظار الثنائية القطبية ومن الحد الأقصى لطرفها الأميركي.
رامسفيلد ابن الحرب الباردة وهو، أيضاً، يتيمها. حرمه الموت المفاجئ للمعسكر الاشتراكي من عدو. أي حرمه من أن يتعرّف على نفسه في عالم لا يشطره ولا ينظمه صراع كوني. أرغمه على الدخول في متاهات لا يحبّها ولا يملك المؤهلات الكافية لفقه أسرارها: الأسباب المحلية للصراعات والمنازعات، الخلافات الأهلية، العوامل الإقليمية في تشكيل المعسكرات. هذه تفاصيل مملّة. «معنا أو ضدنا» هو الحل لأن أي مشكلة في أي بلد أو بين بلدين قابلة لأن تندرج في سياق أعمّ ما دام أحد طرفيها في «معسكر الحرية» والآخر في «معسكر العبودية».
لم يدّع رامسفيلد، يوماً، أنه يملك وعياً معقداً لعالم معقّد. لكنه يدرك، بالبداهة، أن اندحار العدو يجب عليه أن يفتح الباب أمام «القرن الأميركي الجديد»، أي أمام اندفاعة أميركية محكومة بتوسيع المصالح، وتدعيم المواقع، وتعزيز النفوذ. لا ضرورة لإعادة التفكير بالعالم لأن المهم هو الاستفادة منه بعد ما حصل. إن رامسفيلد سياسي قادم من عالم الأعمال لا من الأفكار والنظريات والدراسات والجامعات (خلافاً للعدد الأكبر من «المحافظين الجدد»).
رامسفيلد مؤيد للتدخل في شؤون الغير بالقدر الذي تمليه المصلحة الوطنية الأميركية كما يراها ويعرّفها. لذا فهو قريب من البرنامج الذي طرحه جورج بوش الابن في حملته الانتخابية. لا ينظر براحة إلى المشاركة العسكرية الأميركية في عمليات حفظ السلام (اتركوها للأوروبيين)، ولا في عمليات الإغاثة والصيانة (ليست من مهمات الجيش الأقوى في العالم).
اعتبر أن مهمته المركزية في وزارة الدفاع هي تطوير «الثورة في المجال العسكري». وهي العملية التي بدأها بيل كلينتون تأقلماً مع انتهاء «الحرب الباردة». الوجهة التي دافع عنها وزير الدفاع الجديد هي ضرورة التقدم من «الحربين الإقليميتين في وقت واحد» إلى ما هو أبعد. والهدف إعادة هيكلة الجيش الأميركي ليصبح أقل عديداً، وأرقى عدّة، وأكثر تكنولوجية، وأسرع انتقالاً وانتشاراً. فعلى القوات الأميركية أن تكون قادرة على الضرب حيث تشاء وبلمح بصر وأن تنزل أذىً كبيراً مقابل تعرّضها لأقل خسائر ممكنة. الجيش يرعب ويحسم ولا يتورّط.
أيّد رامسفيلد، بعد 11 أيلول، الحرب على «طالبان». ودعا، مبكراً، إلى حرب على العراق لأنه موجود في منطقة ذات أهمية استراتيجية. ولكن الأمر الطارئ على وعيه هو «بناء الأمم والدول». ليس وارداً عنده التدخل في ثنايا الحياة اليومية، والقيام بعمل الشرطة، والاهتمام بالغذاء والطبابة والخدمات، وتأمين الطرقات وتنظيم السير ومصالحة العشائر بعضها مع بعض. ليس غريباً، والحالة هذه، أن يكون قراره الأول خوض الحرب بثمانين ألف جندي، وألا يكون قد اهتمّ بمدى «نضج» العراق للتغيير، وأن يهمل الاطلاع على «الدراسات العراقية» التي أعدّها المئات من الخبراء، وأن «يتعالى» عن التخطيط لما بعد انتهاء القتال، وأن يتعاطى بخفّة مع أعمال السلب والنهب بعد سقوط بغداد... باختصار يبدو رامسفيلد، في هذا المجال، أسير رأي يرفض أن تكون هذه مهمة الجيش، وأسير تقويم مغلوط تشارك فيه معارضون عراقيون مع «المحافظين الجدد».
سمح رامسفيلد، أثناء الإعداد للحرب، ببث الشائعات والمعلومات الكاذبة (مكتب الخطط)، ولم يهتم بادعاءات بول وولفوفيتز عن «المهمة النبيلة»، ولم يتجاوب مع التحذيرات الخاصة بقلّة العديد ما دام يكفي للحسم... ولما شرعت «الأخطاء» تظهر واكبها بتطوير مناحٍ في شخصيته: صلف، متعجرف، سيئ في علاقاته مع مرؤوسيه، لامبال، ساخر، انفرادي ومتعالٍ على الحلفاء...
تحوّل إلى الوجه العلني لحرب مكروهة قد لا تكون هي الحرب التي يفضّل لأميركا أن تخوضها غير أنه متماهٍ معها. وتحوّل، أيضاً، إلى موضع هجوم لرافضي الحرب، وللخائفين من فشلها، وأيضاً، والأهم، من «المحافظين الجدد» الذين يريدون حرباً أكثر، وجنوداً أكثر، وتورطاً أكثر.
رامسفيلد رمز التناقض بين التحوّل في بنية الجيش الأميركي وبين المهمات الجديدة المنسوبة إلى هذا الجيش. ومع أن الجيش فشل في مهماته الجديدة التي يحددها له «المحافظون الجدد» فإن رامسفيلد هو كبش الفداء وخاصة أن هؤلاء ليسوا في مواقع الصف الأول وقد بادر بعضهم إلى مغادرة السفينة قبل أن تغرق. لم يكن وزير الدفاع على قدر «أحلامهم» الطائشة والهوجاء. لذا ثمة خديعة في إزاحته وهي خديعة من مستويين. المستوى الأول هو أن المتسبّبين الفعليين بالفشل باقون خارج المساءلة. المستوى الثاني هو أن الإزاحة تعني «مراجعة لتقنيات الحرب» لا للحرب نفسها، وهي مراجعة لا توحي كثيراً أن الولايات المتحدة قادرة (أو راغبة) على تعظيم الاستفادة مما جرى. لذا كان ممكناً لبوش، في الوقت نفسه، أن يعلن إقالة رامسفيلد وأن يؤكد الاستمرار على النهج ذاته متجنباً أي انتقاد جوهري للأسباب التي أدّت إلى هذه الكارثة.
لن يندم كثيرون على ذهاب رامسفيلد. غير أن المشكلة باقية ومتمثّلة ببوش نفسه وبالقدر الذي تشبّع به بأطروحات «المحافظين الجدد». وإذا كان يقال إن كوندوليزا رايس كانت متمايزة عن وزير الدفاع السابق فإن لنا، في تجربتنا اللبنانية، أن نقول إنها ترتكب الأخطاء القاتلة نفسها. وليس مقدّراً تجنّب هذه الأخطاء إلا بنوع من الانعطاف لم تظهر بشائره. وهي لن تظهر إلا إذا تعرّضت السياسة الأميركية في المنطقة لمزيد من النكسات.