نقولا ناصيف
انقلب التفاوض بين فريق الغالبية الحاكمة والمعارضة رأساً على عقب. وهي أيضاً حال أولويات كل منهما. كان «حزب الله» يقول بهواجسه، فأضحت هواجس الغالبية على الطاولة. وكانت هذه تقول إن البحث في ثلث معطّل زائد واحداً في مجلس الوزراء غير مطروح للمناقشة، فإذا بالمعارضة في شقيها (الحزب والرئيس ميشال عون) يجزمان ببت الأمر، وأن المطلوب الآن إخراج الضمانات التي تطالب بها قوى 14 آذار كي لا تستخدم المعارضة الثلث المعطّل لشلّ سلطة الأكثرية.
وفي ظل تكتّم المعلومات حيال نتائج الاتصالات والجهود المعلنة والسرية، فإن الوقائع الجديدة للاحتدام السياسي الراهن تشير إلى الآتي:
1 ــــ إصرار طرفي النزاع على إبقاء خطوط الحوار مفتوحة. نائبا «حزب الله» محمد رعد ومحمد فنيش زارا ليل الخميس الرئيس نبيه بري الذي كان قد أوفد في الوقت نفسه إلى قريطم النائب علي حسن خليل للاجتماع برئيس الغالبية النائب سعد الحريري. وتحاول سلسلة اللقاءات هذه إجراء موازنة بين ما يطالب به كلا الطرفين. ورغم بيانات النفي، باتت المحكمة ذات الطابع الدولي في اغتيال الرئيس رفيق الحريري على طاولة التسوية مع الثلث المعطّل. وتبعاً لمطّلعين على نتائج اتصالات ليلي الخميس والجمعة، يسعى بري إلى مخرج يرضي الطرفين بعدما أضحت المحكمة الدولية هي الثمن السياسي الموازي لتخلي الغالبية عن الثلث زائد واحداً في مجلس الوزراء. مع ذلك تصطدم هذه المقايضة بصعوبات مزدوجة الجانب:
أولهما أن قوى 14 آذار تريد انتزاع تأييد مطلق للمحكمة الدولية من «حزب الله» تحديداً على طاولة الحوار قبل طرح هذا الموضوع على مجلس الوزراء. وهو بالنسبة إليها مكسب سياسي يضمن إجماعاً وطنياً للمحكمة إذا خرج من طاولة التشاور سياسياً ومن مجلس الوزراء قانونياً.
وثانيهما أن الحزب يفصل بين تأييد مبدئي للمحكمة وبين مناقشة تفصيلية لمسودتها. وهو كان قد تسلّم أمس مسودتها من طريق رئيس المجلس، مع أن مسؤولاً بارزاً في الحزب كان يأمل أن يكون مصدر الإرسال هذا هو الحريري ترجمة لسعي الطرفين إلى خوض جدي في هذا الموضوع. وفي أي حال فإن هذا الموضوع سيكون على طاولة الجولة الرابعة من التشاور اليوم السبت، مع أن أحداً من الطرفين لا يتوقع بالضرورة الخروج بموقف إجماع على مسودة لم يفرغ أي منهما من قراءتها ومناقشتها بعد. ويعني ذلك أن هذا الموقف سيكون مؤجلاً إلى ما بعد عودة بري من طهران الأربعاء، على أن تنبئ الجولة الخامسة بفتح أبواب التسوية على حكومة الوحدة الوطنية نهائياً، وفي صلبها «إجماع وطني» على المحكمة الدولية، أو يؤدي ذلك إلى إبقائها موصدة ليدلف الجميع إلى الشارع.
2 ـــــــ رغم أن لقوى 14 آذار موقفاً متصلباً في العلن هو رفض التخلي عن الثلث زائد واحداً في مجلس الوزراء، وآخر مرناً برسم تفاوض سري هو تقبّلها التخلي عن هذا الثلث، فثمة أولويات داخل الأفرقاء الثلاثة الرئيسيين في هذه القوى تباعد بينهم إلى حدّ: أولوية الحريري إقرار المحكمة ذات الطابع الدولي في مجلس الوزراء دونما خضات، وأولوية رئيس اللقاء الديموقراطي النائب وليد جنبلاط هي أيضاً المحكمة الدولية وأمنه الشخصي الذي يحمله على المضي في حملته على النظام السوري أياً تكن قراءته لتحولات دولية مرتقبة، وأولوية الفريق المسيحي في قوى 14 آذار هي إسقاط رئيس الجمهورية وانتخاب خلف له من صفوفه في ظل تعهّد مزدوج قطعه الحريري وجنبلاط لهذا الفريق بأن الكلمة الفصل في اختيار الرئيس الجديد ستكون له وللبطريرك الماروني نصر الله بطرس صفير. الأمر الذي يحمل الفريق المسيحي على الاعتقاد بأن خروج رئيس من صفوفه يبعث الروح في موقعه في المعادلة المسيحية والوطنية الداخلية ويضعف عون ويشتت قاعدته.
وفي خضم توزّع هذه الألويات تبدو المناقشة الجدية لتأليف حكومة وحدة وطنية تتركز على أولوية المحكمة الدولية بما يرضي الحريري وجنبلاط. يثأر الأول لدم والده الرئيس الراحل، ويحصل الثاني على ضمان شبه كامل بألا يكون هدفاً للاغتيال في ظل مسار محكمة ستدين قتلة الحريري الأب. أما مصير الرئيس إميل لحود، فهو خارج هذا التفاوض، في السرّ على الأقل. وهو ما يتلمسّه الفريق المسيحي في قوى 14 آذار على نحو يحمله على ربط الثلث المعطّل بحل سياسي شامل يُدخِل الملف الرئاسي في الصفقة التي سيوافق عليها في نهاية المطاف الحريري وجنبلاط لإنهاء أزمة الصراع مع «حزب الله» وتفادي مواجهة في الشارع.
بإزاء تجاذب كهذا فإن «حزب الله» غير متحمس لتقديم ثمنين باهظين لقاء حصوله وحليفيه، رئيس المجلس وعون، على الثلث زائد واحداً في مجلس الوزراء. والأحرى أنه يقسّط موافقته على المحكمة الدولية بتمييز المبدأ عن الآلية.
3 ــــ مع وصول مسودة المحكمة ذات الطابع الدولي ومباشرة الأفرقاء المعنيين بها مناقشتها تمهيداً لعرضها على مجلس الوزراء، تبدأ رحلة جديدة من السجال ترتبط بالمواقف النهائية من المسودة، وقبل أن تصل بالضرورة إلى طاولة مجلس الوزراء. ولا يتوقف الأمر عند بري و«حزب الله» فحسب، بصفتهما طرفين مشاركين في السلطة التنفيذية، بل أيضاً بما سيكون عليه موقف رئيس الجمهورية الذي سبق أن أبدى ملاحظات سلبية من مسودة غير نهائية لمشروع المحكمة عَكَسَ من خلالها تمسّكه بموقعه الدستوري، السلبي كما الإيجابي منها. ويلتقي «حزب الله» مع لحود على تفهّم الأسباب التي أملت ملاحظاته تلك، على نحو حمل الحريري، وفق ما كشفه مشارك في الجولة الثالثة من اجتماع التشاور الخميس، على القول للنائب محمد رعد في خلوتهما إنه يعتقد أن «حزب الله» وراء الملاحظات التي أبداها رئيس الجمهورية. وهو أمر يشير إلى أن الغالبية تطابق بين موقفي الرئيس والحزب من مسودة المحكمة، بمقدار ما تعتقد أن ثلثاً معطلاً في مجلس الوزراء سيفكّ العزلة من حول لحود، ويمكّنه هو أيضاً من امتلاك حق نقض على غرار ما سيكون للتحالف الشيعي والجنرال..
لكن ذلك يشير أيضاً إلى مسألة أخرى يتمسّك بها الحزب، وليس بعيداً منها رئيس المجلس، هي أن لا إمرار للمحكمة الدولية دونما موافقة رئيس الجمهورية صاحب صلاحية التفاوض طبقاً للمادة 52. وخلافاً لما تقول به قوى 14 آذار من أنها تستطيع تكرار الموقف من قانوني تعديل المجلس الدستوري والمجلس المذهبي الدرزي بنشرهما من دون أن يصدرهما لحود إذا لم يوافق على المسودة، لا يجاري التحالف الشيعي هذا التفسير. ويرى أن موافقة الرئيس اللبناني، بالاتفاق مع رئيس الحكومة، على مسار التفاوض ونهايته أمر سابق، وضروري لأسباب سياسية وقانونية، لإقرار المسودة في مجلس الوزراء.