جان عزيز
إذا كان صحيحاً ما نُقل عن حوار كوندوليزا رايس وفؤاد السنيورة قبل يومين، وإذا كان صحيحاً أكثر أن السنيورة نقل هذا الحوار الى مجلس الوزراء أول من أمس، فهذا يدفع الى الاعتقاد بأن لدى الاثنين مشكلة على الأقل، في معرفة التاريخ المعاصر، أو في تقدير عبره ودروسه، أو في الذاكرة المستخلصة لهذه الدروس والعبر.
قيل إنه في الجلسة المذكورة، عرض رئيس الحكومة لاتصالاته الدولية استنكاراً لمجزرة بيت حانون، ومنها اتصال بناظرة الخارجية الأميركية. وقيل إن وزيراً قاطعه ممازحاً: «وهل تقدّمت منها بالتعازي؟». فأجابه السنيورة: «نعم، لكنها شرحت لي كيف أن الرئيس الأميركي الراحل رونالد ريغان، ظل قوياً في العامين الأخيرين من ولايته الثانية، بعد خسارة حزبه غالبية المجلسين»، في الانتخابات النصفية في تشرين الثاني من عام 1986.
الواقعة، في حال صحتها أو العكس، تدفع الى استذكار تلك الحقبة، بعد 20 عاماً كاملة على انقضائها. وخلاصتها أنها لا تُطمئن لبنان، وقطعاً يجب ألّا يطمئنّ اليها السنيورة وفريقه.
ذلك أن عهد ريغان الجمهوري، كما عهد جورج دبليو بوش اليوم، بدأ بمشروع «إمبراطوري» آخر، عنوانه سلام الشرق الأوسط. كما بدأ بسلسلة عروض قوة أميركية، من غرينادا وبنما، وصولاً الى منطقتنا ولبنان.
غير أن الأهم، أنه في تلك الفترة أيضاً حصل تحوّل كبير في نظرة واشنطن الى الوضع اللبناني. فبعد 7 أعوام على اندلاع الحرب في بيروت وابتعاد الولايات المتحدة عن أوحالها ومستنقعاتها، صار الحديث مع ريغان ممكناً عن «سياسة لبنانية لأميركا»، تماماً كما حصل مع بوش منذ نحو عامين.
ورغم أن كثيرين في قلب الإدارة الأميركية، كما اليوم أيضاً، ظلوا يؤكدون لأصدقائهم اللبنانيين، أنّ سكان البيت الأبيض لا يعرفون موقع لبنان على خارطة كوكبنا، انفتح «المثلث الفدرالي» في العاصمة الأميركية فجأة للزوار اللبنانيين، بوتيرة ومستويات مفاجئة.
واذا كان «مشروع بوش اللبناني» قد بدأ فعلياً بجلاء الجيش السوري، فإن «مشروع ريغان اللبناني» كان بدأ بدخول الجيش الإسرائيلي. وفي الحالتين كانت الشرعية الدولية «في الخدمة»، فكرّت سبحة أرقام القرارات، من الـ520 حتى الـ1559.
وبفارق 20 عاماً كانت ثمة فرصتان للبنان واللبنانيين، لتحقيق تسويتين. واحدة في ما بينهم لإقامة نظام ما بعد الحرب في عهد ريغان، ونظام ما بعد الوصاية في عهد بوش، وثانية بينهم وبين سوريا، لإرساء العلاقة الندّية، من دون عداء الاحتلال عام 82، ولا استعداء الجلاء ومخلفاته عام 2005.
وفي الحالتين احترف اللبنانيون إضاعة الوقت. عام 1982 خسر المسيحيون بشير الجميل، فانكفأوا الى حدادهم رافضين الخروج منه لإعادة تجديد الصيغة مع شركائهم، أو عاجزين. وعام 2005 خسر السنة رفيق الحريري فتحصّنوا في «جمهورية الضريح»، كي لا يكّيفوا «نظام الطائف» مع مرحلة ما بعد عنجر.
وفي الحقبتين، توهّم المسيحيون قدرتهم على حكم لبنان وحدهم، استحقاقاً لدم بشير، أو عجزاً عن المتابعة من بعده، وتوهمت «السنية السياسية» قدرتها على الحكم بواسطة «طائفها»، على قاعدة استشارات شارل رزق وخالد قباني الدستورية. فسقطت التسوية الداخلية مرتين، وتملّص النظام السوري من استحقاق التسوية السيادية مع لبنان، في لحظة تكافؤ الجارين على غير قاعدة «الأخ الأكبر».
وفي الحقبتين، ضرب أهل السلطة مضاربهم في واشنطن، في سعي منهم الى تعويض ما فات. فدخل أمين الجميل الى المكتب البيضاوي ثلاث مرات، آخرها في كانون الأول 1983، والى جانبه من اعتبره المسلمون لا يمثلهم، وفي المقابل دخله سعد الدين الحريري وفؤاد السنيورة مرات ومرات، آخرها في نيسان الماضي، والى جانبهما هوامش من المسيحيين والشيعة.
وفي الحقبتين أيضاً اكتفت واشنطن بالكلام حتى نشوة اللبنانيين، وظل «الضوء الأصفر» الشهير سيد الموقف على الأرض، حتى تشققت هذه وغارت في «الفوضى».
وفي ظل هدر الزمن والفرص و«المومنتوم»، جاء تشرين الثاني 1986 بالانتخابات الأميركية النصفية، خسر ريغان المجلسين، فأقفل «المكتب اللبناني» في جادة بنسلفانيا. بعد 20 عاماً، وفي ظل الأداء نفسه، يخسر بوش، فهل يبدأ الانعطاف؟
باختصار عهد ريغان ــــ الذي تذكرته رايس وطمأنت السنيورة باستذكاره ــــ بدأ ببشير الجميل رئيساً، وانتهى بعرض مخايل الضاهر أو الفوضى، نقله ريتشارد مورفي «راعي» دخول الجيش السوري الى لبنان سنة 76، من موقعه سفيراً في دمشق. فيما عهد بوش الثاني بدأ بقرار دولي ينقض شرعية اميل لحود، ويتجه الى الانتهاء بعرض رئاسي قد يحمله جايمس بايكر، «راعي» الاجتياح السوري الكامل في 13 تشرين الاول 1990. عهد ريغان بدأ بكسبار واينبرغر يستعرض قواته في مرفأ بيروت، وانتهى بجورج شولتز هارباً من اسم لبنان، ومتحدثاً بصلافة عن «ذاك البلد المصاب بالبرص».
عشرون عاماً، أكثر ما فيها مدعاة للقلق، أن تكون حلقة تامة. مع فارق أن الانقلاب النهائي على عهد بوش لم ينجز بعد. وهو ما يترك الفرصة الأخيرة للبنانيين لتحقيق ما عجزوا عنه طوال عقدين: تسوية في ما بينهم، تؤمّن ميثاقية النظام وسيادة الدولة قبل فوات الأوان. تسوية يستحيل قيامها مع أوهام حكم بيروت ودمشق معاً، بواسطة إفادات الصدّيق وحسام حسام ولبنانية «أبو جمال» المستجدة ورقّة «أبو يعرب» حيال الإعلام اللبناني... وتصير مستحيلة أكثر مع حلم اختيار الرئيس المقبل للجمهورية، وفق بوانتاج قانون الألفين وتهريبة التحالف الرباعي.
تبقى ملاحظة أخيرة حول استذكار رايس واطمئنان السنيورة: بعد 3 أشهر على خسارة ريغان انتخاباته النصفية، عاد الجيش السوري الى بيروت في شباط 1987، بطلب من إجماع سنّي كامل.
ألا تكفي هذه لاستعجال الوقت والحل؟