جوزف سماحة
كان مقدّراً لفشل جلسات التشاور أن يفتح الأبواب أمام أزمة خطيرة. حصل الفشل وها نحن في قلب الأزمة.
اصطدم التشاور بجدار «الثلث الضامن». هذا هو جوهر ما حصل خلال الأسبوع الماضي. نضع جانباً المناورات، والمحاولات لتعديل جدول الأعمال، وتجنّب التطرّق إلى البند الخاص بقانون الانتخابات، نضع ذلك جانباً ومعه الموافقة على التوسيع وإدخال وزراء لـ«التيار الوطني الحر»، فالمشكلة الجوهرية كانت رفض «الأكثرية» إعطاء «الأقلية» حق النقض.
قضية المحكمة الدولية طارئة بمعنى ما. جاءت لتجعل كل فريق يتمسّك بموقفه، فالأكثرية تقول «لو أن الأقلية تملك الثلث المعطّل لما أمكن تمرير المحكمة». والأقلية تقول «لا إمكان للمناقشة في التفاصيل ما دام هناك من يقدر على استخدام التصويت كيفما يشاء».
الاستخدام «الأكثري» لقضية المحكمة مفهوم. الشعار فعّال في التعبئة المذهبية وفي حشر الخصوم بتهمة الدفاع عن مجرمين محتملين. إلا أن ذلك لا يلغي أنه لا يعقل الموافقة على نظام المحكمة كما ورد حتى لو قاد ذلك إلى تحمّل اتهامات. كما أن ذلك لا يلغي حيوية التمسّك بإنتاج الحالة المؤسساتية التي تجعل من قوى سياسية أساسية صاحبة قرار لا صاحبة رأي فقط.
الأكثرية النيابية والحكومية مقفلة على القوة السياسية الممثّلة للأكثرية في البيئة المسيحية. وإذا كان التشاور قد بدأ سعياً لإيجاد حل لهذه المعضلة فإنه انتهى إلى إقفال السلطة دون القوتين السياسيتين الممثلتين للأكثرية الساحقة في البيئة الشيعية. ويمكن أن نضيف إلى ذلك أن النواة الحاكمة نواة نابذة لقوى أخرى متوزّعة على الطوائف والمذاهب كلها. إلا أن ما لا شك فيه، اليوم، هو أن القاعدة السياسية والشعبية للسلطة ضيقة جداً. لا بل إنها من المرات القليلة التي كان الحكم فيها فئوياً إلى هذا الحد.
تدفع النخبة المتنفّذة ضمن الأكثرية نزوعها الاستئثاري إلى ذروة جديدة. ولقد بات أقطاب منها عاجزين تماماً عن إدراك أنهم عندما يتحدثون معتقدين أنهم يصدرون عن موقع يمثّل سلطة عامة فإن الكثيرين من اللبنانيين يستمعون إليهم بصفتهم فاقدين لهذه الشرعية. يتراءى الشخص المنحاز وراء المسؤول. وتنكشف المناورة الصبيانية وراء التصرّف الذي يرى أنه قادر على الإيحاء بحكمته ورصانته. إن هذا أبشع ما يمكن أن يصيب سلطة ما. وهو إذا أصابها فإنها تداريه بالقمع والديكتاتورية. غير أنه يستحيل في بلد مثل لبنان، حيث الحد الأدنى للحريات متاح، أن يحشر الحكم نفسه في دائرة ضيقة وأن يطلب من مواطنيه الولاء والطاعة اللذين يوجبهما الحس المدني.
يزداد الأمر خطورة في الوضع اللبناني الخاص من أن هذا الاستئثار الداخلي شديد الارتباط بتوجّه نحو الالتحاق بالخارج.
تخوض الأكثرية معركتين. الأولى تمرير نظام المحكمة الدولية كما ورد، وتطبيق القرار 1701 بتفسير متشدّد له. وترى أن النجاح في هاتين المعركتين لا سبيل إليه من دون حرمان مواطنين آخرين من حق المشاركة. إلا أن من الواضح في هذين المجالين أن الوجه الآخر للاستئثار ورفض المشاركة هو تسليم حيّز من السيادة الوطنية إلى الخارج. أي إن كل ما ترفضه للبنانيين تقبله لما تسمّيه «المجتمع الدولي» لا بل تقبله من دون أي نقاش. وبالقدر الذي تطرد فيه السلطة مواطنين من دائرة المشاركة فإنها تحلّ أجانب محلّهم. وكما أنها ترفض لشركائها في الوطن حق المساهمة في القرار فإنها تتنازل طوعاً حيال شركائها الدوليين عن أي حق.
يمكن أن نضيف أمثلة أخرى إلى هذين المثلين (باريس ــ 3) وهي أمثلة تشير إلى أن القضايا الجوهرية المتنازع عليها تُظهر أن الأكثرية النيابية والحكومية تقيم ربطاً محكماً بين الاستئثار (ضد الداخل) والالتحاق (بالخارج).
لا يمكن أي تشاور أن ينجح من دون التراجع عن هذا النهج، أي من دون تغييره من أجل زيادة الانفتاح على الداخل والحصانة ضد الخارج. إلا أن النخبة المتنفّذة في الأكثرية هي في وارد آخر. وسنبدأ، من اليوم، قطاف الثمرات المرّة لهذا السلوك القاصر وغير المسؤول.