نقولا ناصيف
فرضت حكومة الرئيس فؤاد السنيورة على الرئيس نبيه برّي و«حزب الله» أمراً واقعاً، وثميناً، هو مسودة المحكمة ذات الطابع الدولي في اغتيال الرئيس رفيق الحريري التي أقرتها أمس بإجماع وزراء هذا الفريق، وبات على المعارضة مراجعة حساباتها السياسية انطلاقاً من هذا التطوّر الجديد. باتت المسودة في عهدة مجلس الأمن من دون إدخال تعديلات عليها في انتظار أن يصدق عليها هو بنفسه.
مآل ذلك الملاحظات الآتية:
1ــ إن إقرار المسودة في مجلس الوزراء ليس آخر محطاتها اللبنانية. ويتعيّن إعادتها إلى لبنان وإحالتها إلى مجلس النواب الذي عليه المصادقة على الإجازة لرئيس الجمهورية إبرامها عملاً بالمادة 52 من الدستور، ولا سيما الفقرة الأخيرة من هذه المادة التي تُدرِج مشروع المحكمة الدولية في إطار «المعاهدات التي تنطوي على شروط تتعلق بمالية الدولة والمعاهدات التجارية وسائر المعاهدات التي لا يجوز فسخها فسنة فسنة، فلا يمكن إبرامها إلا بعد موافقة مجلس النواب». ولا يصحّ والحال هذه التعامل مع المشروع على أنه معاهدة «تُطلع الحكومة مجلس النواب عليها حينما تمكّنها من ذلك مصلحة البلاد وسلامة الدولة».
يفضي ذلك إلى توقيع ملزم لرئيس الجمهورية على مرسوم إحالة المسودة إلى مجلس النواب. وبذلك تكمن مشكلة مزدوجة مؤجلة: موافقة الرئيس إميل لحود، صاحب صلاحية الإبرام، على إحالتها إلى مجلس النواب، مما يقتضي موافقته أولاً على مضمونها، وهذا ما تجاهلته حكومة السنيورة، وموافقة رئيس المجلس، صاحب الاختصاص الحصري في إدراجها في جدول أعمال جلسة عامة للهيئة العامة للبرلمان لإجازة إبرامها. تالياً لم تنته بعد المتاعب الدستورية المتصلة بمسودة المحكمة الدولية: فلا هي ستعود إلى مجلس الوزراء لإجراء قراءة ثانية لها أو تعديلها، وليس لمجلس النواب تعديلها نظراً إلى اقتصار اختصاصه على إجازة إبرامها.
2 ــــــ أدى إقرار المسودة إلى انقطاع آخر ما بقي من خيوط الاتصال بين طرفي النزاع اللذين يخوض كل منهما، من الآن فصاعداً، معركة إلغاء الآخر، في ظل انعدام وجود وسيط يصار إلى الاحتكام إليه. واتضح من مسار اتصالات الساعات المنصرمة أن ملف المواجهة أصبح في يد رئيس المجلس باسم حركة «أمل» و«حزب الله» معاً. وتبعاً لمطّلعين عن قرب على موقف بري، فالرجل يشعر بأنه خُدِع بعدما كان قد تبلغ وعداً من السنيورة بعدم تحديد موعد لجلسة مجلس الوزراء لمناقشة مسوّدة المحكمة الدولية، قبل أن يعمد الأفرقاء المعنيون إلى مناقشتها، وتأخيرها من ثمّ إلى ما بعد الاثنين (أمس). وكان رئيس الحكومة قد أعلمه، في الجولة الثالثة من التشاور الخميس الفائت، بأن المسودة في طريقها إلى بيروت ظهر الجمعة. لكن بري اكتشف في الجولة الرابعة، السبت، ما لم يكن على علم به، بعدما قال رئيس الهيئة التنفيذية في القوات اللبنانية سمير جعجع لأقطاب المعارضة، إن الغالبية لن تتخلى عن الثلث المعطّل في مجلس الوزراء، وإن قدمت هذه المحكمة الدولية أو عشراً منها، وإن جلسة لمجلس الوزراء ستُعقد الإثنين لإقرارها، قال كذلك إن ثمّة معادلة قائمة لا تتنازل عنها قوى 14 آذار هي وجود أكثرية وأقلية. فوجئ بري بالأمر، وطلب فوراً من الوزير محمد فنيش التحقق من ذلك. فعاد إليه وزير «حزب الله» بخلاصة مكالمة أجراها مع الأمين العام لمجلس الوزراء سهيل بوجي الذي أكد له انعقاد الجلسة، وأن لجدول أعمالها بنداً واحداً هو إقرار المسودة.
3 ـــــ لفت حركة «أمل» و«حزب الله» تحرّك مفاجئ حيالهما من ممثل الأمين العام للأمم المتحدة في لبنان غير بيدرسون أمس، وبعيداً عن الأضواء، إذ اجتمع بمسؤولين فيهما مستطلعاً ما يعتزمان الإقدام عليه.
ولعلّ أبرز ما تضمّنه لقاؤه معهما:
ــــ اعتقاد المسؤول الدولي أن الغالبية «أخطأت» في استعجال إقرار المسودة قبل تأمين توافق لبناني واسع حولها. وكشف لمحدثيه أنه بذل والسفير الأميركي جيفري فيلتمان، كل على حدة، جهوداً لدى أقطاب في قوى 14 آذار، من بينهم رئيس الغالبية النائب سعد الحريري، اصطدمت بإصرار هؤلاء على إقرار المسودة في جلسة مجلس الوزراء البارحة. وكان بيدرسون قد رغب، كما أبلغ إلى محاوريه، في تأجيل الجلسة إلى الخميس في انتظار عودة بري، وفسحاً في المجال أمام تفاهم داخلي على موضوع يمثّل مسألة حيوية وضرورية بالنسبة إلى الأمم المتحدة التي تفضّل إقرار المسودة بلا عقبات وفي ظلّ توافق لبناني.
ـــــــ لفت بيدرسون مسؤولي «أمل» و«حزب الله» إلى أن الأمين العام للأمم المتحدة كوفي أنان يلحّ على إقرار مسودة المحكمة الدولية في مجلس الوزراء ومجلس النواب تباعاً، خصوصاً أن ما أُقرّ أمس لم يعدُ كونه، في رأي بيدرسون، مسودة لصيغة نهائية تنتظر التصويت عليها في مجلس الأمن. وهو لذلك أبدى خشيته من تنامي الخلاف بين طرفي النزاع، الأمر الذي يفتح الباب على الحاجة إلى اتصالات وجهود لتفادي انتقال الخلاف بين الغالبية الحاكمة والتحالف الشيعي إلى الآلية القانونية لإقرار المسودة نهائياً تمهيداً لإبرامها. لكن محدّثيه لمسوا عدم إصراره في المقابل على دور لرئيس الجمهورية في هذا الشأن، ولا حتى توقيعه، انطلاقاً من موقف سابق للمنظمة الدولية التي تشكك في الشرعية الدستورية للرئيس اللبناني.
ــــــــ أبرَزَ المسؤول الدولي لمحاوريه حجم تأييد المجتمع الدولي لقوى 14 آذار التي تمثّل، بالنسبة إليه، المشروع الديموقراطي في لبنان، مع أنه سجّل مآخذ و«سوء تقدير» في مقاربة مسودة المحكمة الدولية. وبدا تعويله على قوى 14 آذار من خلال تلميحه لمحاوريه إلى أنه يأمل في تجاوب «حزب الله» وحركة «أمل» مع إقرار المسودة في مجلس النواب عندما يحين أوانها. فالرجل على اتصال دائم بهما انطلاقاً من مراعاة واقع عبّر عنه تكراراً في أكثر من مناسبة، وهو أن حلّ مشكلة سلاح «حزب الله» يحتاج إلى وقت بعيد المدى ومن خلال حوار داخلي.
ــــ اهتم بيدرسون كذلك بمعرفة جدّية التنظيمين الشيعيين في النزول إلى الشارع في ردّ فعل على رفض المسودة. لكنه تبلغ منهما أن ثمة قراراً نهائياً وقاطعاً بالاحتكام إلى الشارع لإسقاط حكومة السنيورة، وعزوَا تريّثهما إلى انتظار عودة بري من طهران غداً الأربعاء. وأوضحا له أن الاعتصام والتظاهر حقان دستوريان، وأن أنصارهما سيستخدمان هذه الوسيلة للتعبير عن رفضهم لاستمرار الحكومة الحالية. مع ذلك تخوّف من حدوث شغب يفضي إلى اضطرابات وفوضى تؤثر في الاستقرار الداخلي. فأكد مسؤولو الطرفين أنهم يخوضون المواجهة مع الغالبية على قاعدة وجود أكثرية وأقلية.