جان عزيز
يوم تمكّن الرئيس الراحل الياس الهراوي من إمرار مشروع في حكومة الرئيس رفيق الحريري قبل أعوام، يقضي بإقرار قانون اختياري للأحوال الشخصية، توترت الأجواء بين «أبو جورج» و«أبو بهاء»، وارتفعت حدّة الشحن، نتيجة مواقف تصعيدية صادرة عن مرجعيات روحية إسلامية معارضة للخطوة، ومهددة باللجوء الى كل الوسائل لوقفها ومنعها. انتهت يومئذ جلسة مجلس الوزراء على شبه انفجار، خرج الحريري مؤكداً رفضه المشروع، وخرج الهراوي مردداً كلاماً كبيراً.
في المساء انتقل أحد حلفاء الحريري الأساسيين الى قريطم قلقاً، انتحى برئيس الحكومة في القاعة الكبرى مستفسراً منه عن التطورات اللاحقة لما جرى ذلك النهار. ابتسم الحريري وأجابه: «ما تعتل همّ». ثم روى له قصة طويلة عن «معركة تاريخية» بين الأكراد العاملين في سوق الخضر في بيروت، خلاصتها أن الكردي المجروح من المعركة، خرج منها وظل يبتسم مطمئناً رفاقه بالقول: «خصمنا يحتفل هذا المساء بليلة زفافه، وثمة ما يحتاج إليه في هذا الوقت، وقد بات في جيبي»...
بعد أيام تبيّن أن الحريري كان على حق، نام المشروع ثم مات، وتابع الرئيسان تعايشهما، كما كان واثقاً أبو بهاء.
اليوم تبدو المسألة مختلفة جداً. فلا فؤاد السنيورة رفيق الحريري، ولا الثنائية الشيعية الياس الهراوي، ولا المحكمة الدولية «قانون اختياري لأحوال شخصية»، ولا ثمة ما يحتاج إليه أي من أطراف الصراع لصراعه، موجود في جيب خصمه. اليوم تبدو البلاد وكأن بلاغاً رقم 1 قد تُلي بالأمس، أو كأن بلاغاً كهذا سيُتلى في الغد، أو كأن أشياء كبيرة تغيّرت أو ستتغير بالتأكيد.
ما حصل أمس، بمعزل عن ضرورة المحكمة الدولية والإجماع اللبناني في شأنها كمبدأ، سيظل يتفاعل مدة طويلة سياسياً، وسيؤشر الى مرحلة جديدة دستورياً، وقد يعيد رسم صورة لبنان ميثاقياً.
ففي السياسة أولاً، بدأت يوم أمس مواجهة مفتوحة بين فريقي «الحريرية السياسية» وأخصامها، لن تنتهي قبل سنة من الآن، أي مع نهاية الولاية الرئاسية الممدّدة خلافاً للدستور. والمواجهة هذه تجد المحكمة الدولية مكاناً لها في قلبها، بعدما بات الحريريون يتهامسون بصراحة عن «تورّط» ما للطرف الشيعي في الجرائم المشمولة بالمحكمة الدولية، وبعدما بات خصومهم يجهرون بأن اللجوء الى هذه المحكمة يريده فريق قريطم وسيلة سياسية داخلية لإعادة التوازن، بعد إحساسه باختلاله عقب التطورات الأميركية والدولية.
وفي تفصيل هاتين النقطتين يقول أحد «المتشاورين» إن الكلام الحريري الموحي باتهام المستقيلين «جنائياً»، لم يعد خافياً ولا خافتاً، ويؤكد أن همس الأكثرية حول «سيارة مروان» و«مشوار الميتسوبيشي» و«اغتيال جبران» صار يشبه الدس اليومي. وهم يستعيدون كلاماً من الياس المر عن لوحة سيارة هناك، وآخر من وليد جنبلاط عن «شبه اعتراف واعتذار بحجة عدم المعرفة» هنا، فضلاً عن «عدة الشغل» الجاهزة من نسج الأقاويل والأخبار.
في المقابل يؤكد مصدر سياسي موثوق به أن فريق الأكثرية بات يدرك التحولات الحاصلة في الأوضاع الإقليمية، لا بل بات يتحسّب لتفاقمها أكثر في المدى الزمني القريب المقبل. ويكشف المصدر نفسه أن قطباً أساسياً من «14 آذار» أبلغ مسؤولاً عربياً كبيراً في 17 تشرين الأول الماضي، «إننا نريد المحكمة الدولية لتصحيح التوازن المقبل مع سوريا»، وإنه بمعزل عن مواقف الآخرين فهو يرى أن إقرار هذه المحكمة ضرورة «لا لكشف الجرائم الماضية، بل لمحاولة تفادي اللاحقة»، فيما لو استمرت التطورات السياسية كما قرأها القطب بعد جولاته الغربية الأخيرة. ويجد المعارضون في هذا الكلام إقراراً بسعي الأكثرية الى تسييس المحكمة وجعلها أداة اضطهاد ووسيلة هجوم.
غير أن ما حصل أمس لا يقتصر على السياسة فحسب، ففيه من الحدث الدستوري الكثير أيضاً. اذ يعتقد أقطاب المعارضة أنه أياً كانت اجتهادات وزراء البلاط الحكومي، ورغم كل «الآراء» الدستورية المستصدرة غب الطلب، يظل الأكيد أن أساسات واضحة من «نظام الطائف» قد مسّت يوم أمس. وما كان قد نقل الى بكركي من مخاوف قبل أيام، تأكد أمس وأنجز، وخصوصاً لجهة صلاحيات الرئاسة في التفاوض الدولي، وفق المادة 52 من الدستور، أو صلاحياتها في إدارة جلسات مجلس الوزراء عبر جدول أعمالها، وفق المادة 64، وأخيراً صلاحياتها في توقيع مقررات هذا المجلس، وفق المادة 54، التي بدت ملتبسة غير واضحة في الكلام الذي قاله السنيورة أمس حول الآلية التي ستتّبعها مسوّدة نظام المحكمة الدولية.
ويبقى الحدث الميثاقي أمس، فمن يسقط الفقرة التأسيسية حول «لا شرعية لأي سلطة تناقض ميثاق العيش المشترك»، يصير قادراً على إسقاط أي فقرة أخرى من المقدمة الدستورية الميثاقية نفسها، من «نهائية الكيان» الى «ديموقراطية» النظام وما بينهما.
هل المسألة على هذا القدر من الخطورة؟ البعض يجزم بأن الجسور قطعت نهائياً، فيما يعتقد آخرون أن العودة عن الطلاق حتمية، أياً كانت الظواهر. وسر الإجابة عن هذه الجدلية يتبلور في الأيام القليلة المقبلة، فإما أن يصح كلام أحد أقطاب السلطة عن «أصله الكردي»، وإما أن يصح كلام القطب نفسه لأحد وسطاء المبادرات العربية، من أنه في النهاية ينتمي الى «جماعة تتستّر بالمألوف»، لا أكثر.