أنطون سعد
عند الساعة الثانية من فجر الثاني عشر من تموز 1979، أجرى نائب رئيس المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى الشيخ محمد مهدي شمس الدين اتصالات هاتفية بكبار المسؤولين اللبنانيين طالباً إليهم إلغاء زيارة الرئيس الليبي معمر القذافي إلى لبنان التي كانت مقررة بعد نحو ثماني ساعات. كانت لهجة الشيخ شمس الدين حازمة لكن بأسلوب دبلوماسي: «الزيارة إذا حصلت، فستؤدي إلى انفجار، وحياة الزائر في خطر». فوجئ يومذاك كبار المسؤولين اللبنانيين بالموقف الشيعي الذي لم يتوقعوه، وأقروا بأنه لم يتبادر إلى أذهانهم أبداً أنه قد تكون للشيعة في لبنان اعتراضات على زيارة الزعيم الليبي على رغم أنه المتهم الأول بتغييب الإمام موسى الصدر قبل نحو أحد عشر شهراً فقط.
كان رد فعل المسؤولين اللبنانيين تلقائياً المبادرة إلى إلغاء الزيارة محاولين قدر الإمكان عدم التسبب بإشكال مع ليبيا صاحبة التأثير والقدرة على الخربطة آنذاك عبر قوى الحركة الوطنية وبعض الفصائل الفلسطينية. ونجحت الاتصالات التي استمرت حتى ساعات الصباح الأولى من ذلك النهار الذي قال فيه أحد أبرز اللاعبين السياسيين في حينه: «سيكون للشيعة في المستقبل دور متنام في لبنان، ولن يتقرر شيء بعد اليوم بمعزل عنهم». كانت تلك المرة الأولى التي مارس فيها الشيعة في لبنان حق النقض. في المقابل، استجاب أركان الجمهورية الأولى من دون إبطاء مراعاة لحساسية مشروعة.
كان الاعتراض الشيعي الثاني بعد نحو أربعة عشر شهراً. ففي 25 تشرين الأول 1980 صدر مرسوم تأليف حكومة الرئيس شفيق الوزان المؤلفة من 22 وزيراً من بينهم أربعة من الطائفة الشيعية هم محمود عمار، محمد يوسف بيضون، أنور الصباح وعلي الخليل. فور صدور مرسوم التأليف الذي لم تكن سوريا راضية عليه بسبب عدم الوقوف على رأيها في تكليف الرئيس الوزان وفي اختيار التشكيلة الوزارية، أعلنت حركة أمل معارضتها للحكومة لأنها غير ممثلة فيها ولأنها لا تلحظ وزيراً شيعياً من البقاع، ودعت الوزراء الشيعة إلى مقاطعة مكاتبهم. فنشأ بذلك ما عرف آنذاك بـ«العقدة الشيعية» التي استمرت 59 يوماً إلى أن نجح الحكم اللبناني متمثلاً بالرئيسين الياس سركيس وشفيق الوزان ونائب رئيس الحكومة ووزير الخارجية فؤاد بطرس في حلها بكثير من الحنكة والتروي عبر إجراء مقايضة مع سوريا: غاب لبنان عن قمة عمان إرضاء لدمشق، في المقابل، أوعز الرئيس السوري حافظ الأسد لرئيس حركة أمل نبيه بري بوجوب «أن نتنازل في سبيل المصلحة العليا»، على ما روى هذا الأخير في مذكراته التي أعدها الزميل نبيل هيثم.
خلال الأزمة، «صمد» الوزراء عمّار، وبيضون، والصبّاح وداوموا في مكاتبهم فيما قاطع وزير المال عليّ الخليل الوزارة المسندة إليه استجابة لمطلب حركة أمل. أما الحكومة فلم تلتئم مرة واحدة طوال هذه المدة لأن الفريق الحاكم وبخاصة الرئيس شفيق الوزان «فضّل عدم استثارة الرأي العام المعارض تفادياً لتفاقم الاحتجاجات»، كما يقول الوزير السابق محمود عمّار. والجدير بالذكر أن حركة أمل في ذلك الحين كانت في طور نشأتها ولم تبلغ بعد قدرتها التمثيلية التي وصلت إليها في ما بعد، وأن الوزراء الثلاثة الآخرين لم يكونوا فاقدي التمثيل بل من التكتل النيابي المستقل الذي كان يتفاعل مع رئيس مجلس النواب كامل الأسعد صاحب التمثيل الكبير في جنوب لبنان في الستينيات والسبعينيات. كما أن حكومة الرئيس الوزان كانت تحظى بدعم القوى الإسلامية التقليدية وبخاصة الرئيس صائب سلام وقوى الجبهة اللبنانية وبعض المستقلين البارزين. وغني عن البيان أن الحجة التي تذرعت بها حركة أمل لشل عمل الحكومة لم تكن على قدر كبير من الأهمية بدليل أنه تم تجاوزها دون مشكلة.
أمام هذين النموذجين من التعاطي مع الاعتراضات الشيعية، المشروع والأقل مشروعية أو غير المشروع، يبدو موقف الحكومة اليوم غريباً عن التقاليد السياسية اللبنانية وقريباً من الممارسات الحكومية والأمنية والسياسية في زمن الوصاية السورية حيث كان من السهل شطب كل من يخالف أو يعارض ولو أدى ذلك إلى إخراج طائفة بأكملها من المعادلة الوطنية. ربما أكثر ما تفتقده الحياة السياسية اللبنانية اليوم هو القامات السياسية التي كانت تحسن الحفاظ على شعرة معاوية وعدم الوصول إلى نقطة اللارجوع.