جوزف سماحة
«إنني أرفض استقالتكم من الحكومة وأدعوكم إلى الاستمرار في تولّي مهماتكم ومسؤولياتكم بالزخم والعطاء نفسيهما اللذين تميّزت بهما ممارستكم في الحكومة». هذا ما ورد في ختام كتاب رئيس الوزراء فؤاد السنيورة رداً على كتب الاستقالة الخطية التي تلقاها من وزراء «أمل» و«حزب الله».
انعقدت جلسة مجلس الوزراء وجاء في المعلومات الرسمية الموزّعة عنها أنها عقدت استثنائياً بحضور الوزراء الذين غاب منهم السادة: محمد خليفة، طراد حمادة، محمد فنيش، فوزي صلوخ، طلال الساحلي، ويعقوب الصراف.
وزراء مستقيلون. ولكن الاستقالات المرفوضة تتحوّل إلى «غياب» عن الجلسة بما يسمح بالقول إن القرارات اتخذت بالإجماع.
هذه عيّنة عن ممارسة سلطوية. يرى فيها البعض محاولة لعدم قطع الجسور ودليل حكمة. نرى فيها غير ذلك لأن الحكمة كانت تقتضي سلوكاً آخر. نرى فيها عقلية تجمع بين عدم احترام الآخر والتذاكي في تمرير القرارات.
¶ ¶ ¶
يطيب للدكتور سمير جعجع أن يفسّر نوع تحالفه مع تيار المستقبل والحزب الاشتراكي بالقول: «كيف لا أفعل ذلك وقد أصبحوا مثلنا وباتوا يقولون كما كنا نقول: لبنان أولاً وأخيراً». الدكتور جعجع على حق في ملاحظة اللبنانوية المستجدّة لبعض حلفائه، ولكن ما لا ينتبه إليه جيداً هو أن الحلفاء أنفسهم أصيبوا بلوثة كانت ملازمة لنخب مسيحية لبنانية.
اللوثة هي هذا الشعور الحميم والعميق (والصادق ربما) بالتماهي الكامل بين «مصلحتنا» ومصلحة لبنان. من هنا النطق الدائم باسم البلد موحداً ورفض رؤية أي انقسام أو تباين. لقد شهدنا إحياء هذه اللوثة في 14 آذار وفي الأدب الذي رافقها مقيماً الفصل بين لبنانيتها ولا لبنانية التحركات الأخرى. ولقد استمر هذا المنطق القائل بأن رموزاً بعينها هي الرموز الوطنية، ومقدسات محددة هي المقدسات الوطنية، وسياسات هي السياسات الوطنية... ولقد أعطي مفعول رجعي لهذه المفاهيم، بما يقود إلى قراءة تحريفية بالكامل للتاريخ اللبناني الحديث.
لا يمكن للمصاب بهذه اللوثة أن ينظر إلى صاحب رأي آخر إلا بصفته منشقّاً، أو خارجاً عن الإجماع، أو عميلاً سورياً ــ إيرانياً، أو مريضاً، أو صاحب طموحات شخصية، أو أداة لدى صاحب طموح. وفي قضية مثل المحكمة الدولية لا يعود التباين في التفاصيل ممكناً لأن كل من يدعو إلى قراءة متأنّية يعلن أنه شريك في الجريمة. وهكذا لا مجال إلا لما جاء في خاتمة البيان الرسمي عن اجتماع أول من أمس «بعد المداولة كان اتفاق على أن مجلس الوزراء يرى أنه ليس لديه أية ملاحظات على مسوّدة الاتفاق والنظام كما أودعها الأمين العام...». ليس معروفاً ما هي التهمة التي كانت ستوجّه لوزير يقترح، مثلاً، إضافة فاصلة؟!
عقلية «نحن لبنان ولبنان نحن» تقود إلى إطلاق تصريحات من نوع «الحكومة أوقفت العدوان»، «الحكومة ألغت الفصل السابع من 1701»، «الحكومة هي التي تعمّر»، إلخ... وعندما تنتاب هذه العقلية نبرة أبوية، تصدر الدعوة إلى إطالة البال على مشاغبين، أما النبرة الأريحية فتقود إلى «التنازل» عن ملكية حقيبة وزارية من أجل تجنّب مشكلة يقوم بها غير صاحب حق.
إن هذه العقلية بالضبط هي التي تمنع السنيورة من قبول استقالة وزراء راشدين. يحصل الأمر كما في الأحزاب الستالينية أو الجمعيات السريّة حيث الإقالة فقط مسموحة، أما الاستقالة فهي تجديف. نحن نقبل ونقبل أو لا نقبل وبما أننا، الآن، لا نريد فلا يحق لأحد ممارسة حريته في المغادرة. إن التحرّر منّا شرطه موافقتنا، أي شرطه صيغة أخرى من صيغ الخضوع لنا.
الوزراء المستقيلون، إذاً، هم غير مستقيلين. يظنون أنفسهم كذلك. قرارنا في حقهم هو الذي يحدد واقعهم وقد قررنا أنهم متغيّبون. وهكذا فإن أحزابهم وطوائفهم ممثلة في الحكومة رغماً عنها، لا بل شريكة بغضّ النظر عن رغبتها وعن تصورها لهذه الشراكة. لا يمكنها إلا أن تكون كما نريد لها أن تكون لأنه لا حياة للمختلف معنا خارج العالم الذي أقمناه لنا وله.
من يدقّق أكثر في صيغة السنيورة الرافضة الاستقالات يلاحظ ثناءً على الوزراء المستقيلين. إنه نوع من الثناء الذي يقال في حق من اضطر إلى الاستقالة درءاً لحملة أو لاتهامات. ولكن لا مكان له في ظل خطوة تريد التعبير عن موقف سياسي اعتراضي. يقول السنيورة في الجوهر إن الاستقالة غير مقبولة لأنه راضٍ عن أداء الوزراء. ولا يخطر له، إطلاقاً، أن ينسب الاستقالة إلى عدم رضاهم عن أدائه. وكيف لا يرضون عن أدائه ما دام هو، ومن يمثّل، التجسيد الوحيد للبنان ومصلحة لبنان!
قد يعتقد السنيورة، في قرارة نفسه، بأنه قدّم خدمة كبيرة للوزراء برفض استقالاتهم. والسبب في ذلك أنه سمح لهم، من دون رغبة منهم، بالمشاركة في «يوم تاريخي». إن رفض مشاركتهم في السلطة يجعل من غيابهم الشكل الوحيد المرغوب فيه لحضورهم.
توجِدُ الأكثرية النيابية والحكومية الظروف الدافعة إلى الاستقالة. ولكن الاستقالة ممنوعة في حد ذاتها. فما تريده الأكثرية فعلاً هو وزراء مستقيلون لكن باقون ضمن الحكومة. وزراء درجة ثانية. وزراء يدفعون ثمناً لأنهم لا يشتركون مع زملائهم في التماهي بين «نحن» و«لبنان». وزراء مراقبون.
إن التصرّف كأن الاستقالة لم تحصل، دليل نوع من «التوتاليتارية الوديعة» التي تقوم على حرمان الآخر حقه في المشاركة وأيضاً حقه في الاختلاف، أي حقه في تحويل الاختلاف فعلاً سياسياً معبّراً عنه. ولا يغيّر من الأمر شيئاً أن هذه الممارسة القمعية تحصل بلطف وتهذيب ما دام الجوزو يتكفّل بأن يقول بصوت عالٍ ما يفكر فيه الآخرون ويهمسون به همساً.
إن رفض الاستقالة تحت ذريعة الدعوة إلى الاستمرار في المشاركة هو الدليل الأشد بلاغة على عمق الأزمة اللبنانية الحالية التي هي، في العمق، أزمة استئثار ورفض لأي تقاسم عقلاني للسلطة.