نقولا ناصيف
تداخَلَ الدستوري في السياسي في ما ترتب على استقالة الوزراء الشيعة الخمسة من حكومة الرئيس فؤاد السنيورة (السبت 11 تشرين الثاني)، فأوجد أو كاد سوابق خطيرة لا تقتصر مفاعيلها على الرئيس إميل لحود وصلاحياته الدستورية، بسب ما يحوطه من شكوك وطعن في ولايته الممددة أو بسبب مناهضة فريق واسع من السياسيين له، بل ستطارد هذه السوابق أي رئيس مقبل للجمهورية إذا وجد نفسه يوماً في واجهة خلاف سياسي مماثل. وبمقدار ما تكتسب السوابق طبيعة دائمة، فإنها تدفع في اتجاه تفسير جديد للصلاحيات انتقاصاً أو تعطيلاً للأصول التي ترعى ممارستها.
على نحو كهذا أثار السجال السياسي الذي أحاط بتصويت مجلس الوزراء على المحكمة ذات الطابع الدولي في اغتيال الرئيس رفيق الحريري أكثر من علامة استفهام حيال الطريقة التي تُقارَب بها الصلاحيات الدستورية. وهو مغزى المرافعة التي أدلى بها وزير التربية خالد قباني في معرض دفاعه عن دستورية جلسة مجلس الوزراء لإقرار مسودة المحكمة الدولية (الإثنين 13 تشرين الثاني)، وتقليله من أهمية مفاعيل خروج وزراء طائفة برمتها من السلطة التنفيذية، وفي أبسط الأحوال اعتباره هؤلاء الوزراء إما متغيّبين كما ورد في مقررات جلسة مجلس الوزراء، أو لم تُقبَل استقالاتهم تأكيداً للشرعية الدستورية لحكومة السنيورة على نحو ما اتسمت به عند صدور مرسوم تأليفها في 19 تموز 2005 ثم بعد نيلها ثقة مجلس النواب.
وفي واقع الحال تستعيد تطورات الأيام الأخيرة، منذ استقالة الوزراء الشيعة، بضعة معطيات أقرتها إصلاحات اتفاق الطائف وأُدرِجت في متن دستور «الجمهورية الثالثة»، وتتركز على الآتي:
1 ـــــ قاعدة المثالثة من ضمن المناصفة بين المسيحيين والمسلمين في مجلس الوزراء التي تحدّد عدداً متساوياً لوزراء الطوائف الثلاث الكبرى، الموارنة والسنّة والشيعة، ولم يكن اتفاق الطائف أول مَن استحدثها، بل الحكومة الوحيدة التي ألّفها الرئيس الراحل تقي الدين الصلح عام 1973 وأطلق عليها اسم «حكومة كل لبنان». كذلك أتى على ذكرها «الاتفاق الثلاثي» الذي وقّعه في دمشق في 28 كانون الأول 1985 قادة الحزب التقدمي الاشتراكي وحركة «أمل» و«القوات اللبنانية».
منذ عام 1973 درج الأخذ بالمثالثة في مجلس الوزراء إلى أن كرّستها إصلاحات اتفاق الطائف مع تأكيده على المناصفة في مقاعد مجلس النواب. ورمت المثالثة إلى تحقيق هدفين: أولهما إلغاء التمايز بين الطوائف الرئيسية الكبرى (الموارنة والسنّة والشيعة)، وثانيهما إنصاف الطوائف الصغرى. تبعاً لذلك أقرّت مداولات اتفاق الطائف الحدّ الأدنى في تأليف أي حكومة، وهو ألّا تقلّ عن 14 وزيراً بغية تمثيل الطائفة الأرمنية وعدم استبعادها عن أي حكومة يقل عدد وزرائها عن 14.
بذلك تكون استقالة الوزراء الشيعة الخمسة قد أخلّت بقاعدة المثالثة من ضمن المناصفة. وخلافاً لسابقة تكرّرت مرتين، عام 1958 ثم عام 1968 عندما تألفت حكومة رباعية من وزيرين مارونيين وآخرين سنيين من دون توزير شيعي تحت شعار مواجهة استحقاقات داهمة (مواجهة آثار «ثورة 1958» والوجود المسلّح الفلسطيني في لبنان)، بات أي إخلال بالمثالثة من ضمن المناصفة دافعاً كافياً للتشكيك في شرعية أي حكومة تفتقر إلى تمثيل إحدى الطوائف الرئيسية الثلاث المكوّنة لقاعدة المثالثة. الأمر الذي لا يصحّ بالضرورة على الطوائف الصغرى الأخرى التي تبقى تحتفظ في مجلس الوزراء بفاعلية دورها وشرعية مشاركتها في القرار السياسي، بيد أنها تفتقر، ربما، إلى ما لا تجهر به صراحة إصلاحات اتفاق الطائف، وهو أنها، بوجودها في الحكومة، تمتلك حق النقض.
2 ـــــ لا نصّ في الدستور يرعى رفض استقالة وزراء على نحو الموقف الذي اتخذه رئيس الحكومة فؤاد السنيورة غداة استقالة الوزراء الشيعة الخمسة. بل تشير الفقرة الرابعة من المادة 53 إلى مراسيم تعيين الوزراء كما إلى مراسيم قبول استقالتهم أو إقالتهم يصدرها رئيس الجمهورية بالاتفاق مع رئيس مجلس الوزراء. ويعبّر ذلك عن طبيعة الاستقالة التي تكون خياراً حراً للوزير المعني، بحيث يصار إلى تراجعه عنها أو الاصرار عليها، من دون أن يكون ثمة تدخّل من رئيس الجمهورية أو رئيس مجلس الوزراء لرفضهاسياسياً كما حصل أخيراً، ولا يملكان تالياً حقاً دستورياً في رفضها ما لم يُقدم الوزير المعني على التراجع عنها من تلقائه.
تبعاً لذلك تصبح الاستقالة نافذة حالما يتقدّم بها الوزير، الأمر الذي يفضي إلى ملاحظات أربع:
أولاها أن صدور مرسوم عن رئيسي الجمهورية ومجلس الوزراء بقبول الاستقالة لا يعدو كونه أكثر من إعلان شغور منصب وزاري توطئة لملئه بتعيين وزير آخر بالمرسوم نفسه أو بآخر مستقل.
ثانيتها أن استقالة الوزير كاستقالة رئيس الجمهورية تصبح نافذة فور تقديمها. وعلى نحو كهذا كانت سابقة استقالة رئيس للجمهورية كرّسها تخلي الرئيس الراحل بشارة الخوري عن منصبه في 18 أيلول 1952 عندما وجّه كتاب تنحّيه إلى رئيس مجلس النواب أحمد الأسعد آنذاك لأخذ العلم بذلك ليس إلا. وهو ما أقدم عليه في ما بعد الرئيسان فؤاد شهاب والياس سركيس: عندما توجّه الأول باستقالته إلى الرئيس صبري حمادة في 20 تموز 1960، والثاني إلى الرئيس كامل الأسعد في 6 تموز 1978. إلا أنهما تراجعا عنها بعد ساعات. وهي حال الوزير الذي يستقيل فيأخذ المرجع الدستوري المعني علماً باستقالته أو يتراجع عنها الوزير.
وأعطى الرئيس نبيه بري البارحة من طهران جواباً شافياً في شأن الوزراء الشيعة الخمسة بأن أكد أن لا عودة عن استقالاتهم من حكومة السنيورة، تأكيداً لنفاذها القانوني فور أخذ العلم بها واعتبارها نهائية. وكان رئيس المجلس يدحض بذلك ما صدر عن مجلس الوزراء من أن الوزراء مستمرون ولكن «متغيّبون».
ثالثتها أن الوزير يتوجه بكتاب استقالته إلى رئيس الجمهورية الذي يصدر مراسيم تأليف الحكومة الجديدة واستقالات الوزراء وإقالتهم، لا إلى رئيس مجلس الوزراء وإن يكن الأخير يشارك رئيس الجمهورية في توقيع مراسيم التعيين والاستقالة والإقالة، بيد أنه لا يشاركه صلاحيات الإصدار التي هي اختصاص حصري لرئيس الجمهورية.
رابعتها رغم الصلاحيات التي حدّدها له الدستور المنبثق من إصلاحات اتفاق الطائف من أن مجلس الوزراء مؤسسة مستقلة في ذاتها، فإن موقع الوزير فيها ـــــ إلى كونه ممثل طائفته كبرى أو صغرى ـــــ يحيله مسؤولاً لا موظفاً، شريكاً في القرار السياسي. ومغزى ذلك أن الوزراء جميعاً متساوون بمن فيهم رئيس مجلس الوزراء الذي يجعل منه اتفاق الطائف، والدستور تالياً، رئيساً لمجلس الوزراء، وفي الوقت نفسه الأول بين متساوين، فلا يُرجّح صوته على شركائه الآخرين داخل السلطة التنفيذية.