جان عزيز
ترسم أوساط أميركية معنيّة بالكونغرس، صورة شاملة لسياسة واشنطن الخارجية، بدءاً بمتغيرات الفكر الأميركي البنيوي، وصولاً الى عواصم المنطقة تفصيلا،ً وانتهاءً ببيروت.
مفتاح القراءة تحدده الأوساط بكلمة واحدة: «الاستقرار». وتشرح أن أعواماً أربعة من السياسة «الانفتاحية» تحت عناوين «الديموقراطية» و«الحرية» و«الحداثة»،كانت كافية لإجماع «المؤسسة» الأميركية بكل أصواتها وأطرافها، على أن المشروع كان خطأ. وتشير الى أن واشنطن أدركت بعد محطات كابول وبغداد ورام الله وحتى بيروت، أن نشر الديموقراطية فوراً، على طريقة «الانتخابات الآن»، خطأ وخطر كبيران، وأن نتيجته، بحسب الاقتناع الأميركي: إما الفوضى، وإما سيطرة الإسلاميين على المجتمعات وحياتها العامة. لذلك تجزم أوساط الكونغرس أن التراجع عن هذا «المشروع الويلسوني» الجديد بات نهائياً لمصلحة أمرين: «استقرار» البلدان المعنية، ومساعدتها تدريجاً على التأهل للديموقراطية، عبر تطوير المجتمع المدني وتحصين الأنظمة القضائية وإرساء «الحكم الصالح»... على أن يكون المدى الزمني لهذه الآلية عقداً كاملاً أو أكثر.
وتشرح الأوساط أن «الاستقرار» هو الكلمة السحرية الرائجة اليوم في واشنطن، وكل ما عداها جرى رميه من نوافذ الإدارة. كاشفة أن «الرمي» لم يطاول منظّري المحافظين الجدد وحدهم، بل بلغ بعض مفاصل الإدارة: ليز تشيني، ابنة نائب الرئيس الأميركي، عادت الى بيتها. كارين هيوز، طلب منها الصمت في البيت الأبيض. وعاد «رجال الختيار العتيق» بايكر وغايتس وسكوكروفت... والحبل على الجرار.
وتقول الأوساط نفسها إن المسألة سبقت نتائج الانتخابات، وإن كانت ستتعزز بعدها. أما التداعيات الأولى لهذا التغيير، فتلخصها المصادر الأميركية بالقول: «لن تسمعوا خلال فترة طويلة نسبياً، انتقادات للملك عبد الله في السعودية، أو لحسني مبارك في مصر، أو لسواهما من أصدقائنا، كما كان الأمر في الأعوام الماضية». وبدلاً من التحريض على التغيير، سيكون التشجيع على الثبات والاستقرار: «ستابيليتي».
هل يشمل هذا النهج الجديد العراق؟ تجيب الأوساط الكونغرسية الواسعة الاطلاع، أن العراق سيكون موضع التغيير الأكبر، والأكثر تدريجية، لكن ضمن ضوابط ثابتة أبرزها: ممنوع تكرار صورة الطوافة الأميركية وهي تخلي آخر جنودنا في سايغون. ممنوع إذلال واشنطن في بغداد. كيف تتأمن هذه الضوابط؟ عبر مروحة من الإجراءات: تخفيف عدد القوات الأميركية، تجميعها في نقاط تمركز أساسية، ترك الجنوب لمداه الشيعي، القبول بالتمدد السني عبر «دلتا الأنبار» من غرب بغداد حتى الحدود السورية، ورصد أفق التطور العراقي بين مكوناته الثلاثة. وتكشف الأوساط أن التقويم الأميركي للاعبي العراق بدأ يتبدّل: «المالكي انتهى أميركياً، ما من مسؤول في واشنطن يفكر بجرح أحد جنودنا من أجل أدائه وسياسته. مقتدى الصدر ظاهرة تجدر متابعتها، وقد يكون له دور بنّاء ضمن تصوّر ما. الأكراد لا مشكلة. يبقى تطبيق مبدأ: دعه يعمل دعه يمرّ».
لكن الأوساط نفسها تسارع الى الاستطراد أن ثمة عوامل إقليمية للوضع العراقي، سيصار إلى مقاربتها تدريجاً، رغم رفض بوش الحالي لتوصيات لجنة بيكر. إيران وسوريا ستكونان موضع التزام ما (Engaging). الإدارة تفضّل سوريا أولاً، مع أن فاعلية التوجّه إيرانياً ستكون أكبر. لكن العداء حيال طهران لا يزال إحدى النقاط القليلة المشتركة بين الحزبين الأميركيين، «لا تنسوا أن أبرز المنتصرين في الانتخابات كانوا ينتقدون الجمهوريين لأنهم بدأوا بضرب العراق، فيما رأيهم أن الحرب كان يجب أن تبدأ على إيران».
لكن الأكيد أن كلاماً ما سيحصل مع النظامين في موضوع العراق. إلا أن الأوساط تسارع هنا الى التحذير من أن أي مبالغة من دمشق وطهران في استغلال هذا التحوّل، ستؤدي الى انقلابه في شكل معاكس. فالكلام مع سوريا لا يمكن أن يشمل لبنان. والكلام مع إيران لا يمكن أن يشمل أي تساهل في الملف النووي. وتجزم الأوساط بأن أي خطأ في هذا المجال من نوع استنفاد دمشق أو طهران حظيهما مع واشنطن، على طريقة الابتزاز، قد يعيد فعلاً صورة قرار الانسحاب من فيتنام، مذكرة أن نيكسون بعد اتخاذه هذا القرار، ونتيجة أخطاء في حسابات الأخصام، لم يلبث أن وسّع حربه لتبلغ لاوس وكمبوديا، وذلك تحت عنوان الانسحاب نفسه. وتعتقد الأوساط بأن تكرار المماثلة مع جيران العراق ممكن، في حال ارتكاب الأخطاء الفيتنامية نفسها.
يبقى ملف العملية السلمية في الشرق الأوسط، هل يظل في «ثلاجة» الجمهوريين كما كان الوضع منذ ستة أعوام؟ تؤكد الأوساط أن المسألة ستتغير على هذا الصعيد أيضاً، وأن إعادة الحرارة والحياة الى آليات العملية السلمية ستكون واضحة وسريعة، بغضّ النظر عن النتائج والآمال والتوقعات. لكن الأكيد أن الديموقراطيين سيضغطون على البيت الأبيض لإحياء تفاوض ما. ووزارة الخارجية الأميركية ستستفيد من هذا الضغط، كما من غياب رامسفيلد ومن وجود تلامذة بيكر، لاستعادة دورها ووظيفتها من الإدارة، وفي طليعة ذلك العودة الى العملية السلمية.
يبقى السؤال واجباً: وما الذي سيتغير وفق ذلك كله، في لبنان، وبين لبنان وسوريا؟
(يتبع السبت المقبل)