جوزف سماحة
إذا كان لنا أن نتعرّف على النزعة الاستئثارية المتحكّمة بعقلية المجموعة المتنفّذة في الأكثرية النيابية والحكومية، فعلينا، ربما، أن نقوم بالتمرين الآتي:
نحن، الآن، في 17 تموز 2006. عناوين الصحف اللبنانية والدولية تشير إلى تراجع كبير في حدّة القصف الإسرائيلي على لبنان. السبب هو سلسلة التطورات الدراماتيكية على الجبهة وفي الداخل. فلقد لوحظ أن صاروخاً واحداً لم يُطلق على إسرائيل. وأن مواطنين جنوبيين في الخيام وعيتا الشعب ومارون الراس وبنت جبيل وغيرها خرجوا رافعين الأعلام البيضاء ومصحوبين بعناصر من «حزب الله» قرّروا تسليم أنفسهم. ولم يتم التأكد من شائعة سرت تقول إن الأمين العام للحزب حسن نصر الله غادر لبنان مع عدد من القياديين متوجّهاً إلى مكان مجهول قد يكون طهران عبر دمشق. إلى ذلك تعرّض مسؤولون في «التيار الوطني الحر» لمضايقات أثناء جولة لهم وجرى إفهامهم، في غير مكان، أن «المسيحيين» لن يغفروا لهم تغليبهم التضامن الوطني على الاستفادة من العدوان الإسرائيلي المدعوم غربياً والذي وفّر قاعدة للتخلّص من سلاح الميليشيا الأصولية وفتح الباب أمام عودة الدولة. كما تسرّب نبأ يفيد أن وزيرة الشؤون الاجتماعية رفضت طلباً عاجلاً من سليمان فرنجية للاجتماع بها وأن وفوداً من النازحين الجنوبيين تقصد قادة الأكثرية في أماكن اللجوء متبرئة من المقاومة ومعبّرة عن سخطها على المغامرة غير المحسوبة...
لنتصوّر أن هذه الأمور كلها حصلت في 17 تموز الماضي، فما تكون عليه صورة المشهد السياسي اليوم في 17 تشرين الثاني؟ الأكثر ترجيحاً أن تكون الصورة هي، إلى حد بعيد، ما هي عليه اليوم. وزراء «حزب الله» وحركة «أمل» خارج الحكومة، «التيار الوطني الحر» ممنوع من المشاركة، الاتهامات تتوالى مؤكدة أن الذهاب إلى الحرب استولد الدمار كلّه، وأن حكومة الأكثرية تحاول إنقاذ ما يمكن إنقاذه، وأنها، بعد تنظيفها من عناصر المحور السوري ــ الإيراني، بات في وسعها أن تتصرّف على قاعدة «لبنان أولاً وأخيراً». يجب أن نضيف إلى ذلك أن سفراء دول الوصاية يجولون على السياسيين، ويضبطون إيقاع الحركة العامة، ويلوّحون بأن مجلس الأمن على استعداد للانعقاد وإصدار القرارات اللازمة من أجل حماية استعادة السيادة اللبنانية من خصومها الداخليين.
لعل المشكلة في الوضع اللبناني الحالي أن ما حصل فعلاً في 17 تموز الماضي مخالف لما افترضنا أنه حصل. ومع ذلك، هناك من يصرّ، في 17 تشرين الثاني، على السلوك وكأن ما رسونا عليه متناقض جذرياً مع ما رسونا عليه فعلاً.
يعود أصل هذه المشكلة إلى نظرية صاغها أحد أقطاب الأكثرية في خلال العدوان الإسرائيلي وهي نظرية تنهض على معادلة تعاني خللاً كبيراً بين طرفيها. فالقطب المذكور أكد، في جملة واحدة، أن «حزب الله» انتصر وأن عليه أن يدفع ثمن ذلك كما لو أنه هُزم. بكلام آخر بدا كما لو أن البرنامج المقترح على الحزب وحلفائه سيكون هو نفسه بغضّ النظر عن نتيجة المواجهة. لكن ذلك يعني أمراً وحيداً لم يعد بالإمكان السكوت عنه: لقد وضعت الترتيبات السياسية لما بعد العدوان كما لو أن هذا العدوان سيحقّق أهدافه بالكامل ولمّا تبيّن أن الوقائع تعاكس هذا التقدير استمر التمسّك بهذه الترتيبات مع تغيير في المقدمات. فبدل القول إن المقاومة انتهت لذا يجب القيام بكذا وكذا بات يقال إن المقاومة انتصرت لذا يجب القيام بكذا وكذا. مع الإشارة إلى أن «كذا وكذا» هي، في الحالتين، واحدة!
هذا نقص فادح في القدرة على التكيّف. وقد لاحظناه في أيام العدوان وبشكل أشدّ وضوحاً في المراحل الأخيرة حين كانت النتائج قد بدأت تتّضح من دون أن يمنع ذلك ارتفاع أصوات تطالب باستكمال تحقيق المطالب الإسرائيلية. ثم عدنا ولاحظنا ذلك بعد صدور القرار 1701 حين قدّم لبنانيون تفسيرات له تتماهى مع التفسيرات الإسرائيلية المتشدّدة.
وما نلاحظه اليوم، في خلفية الأزمة السياسية الطاحنة، هو عجز الأكثرية عن المرونة وامتناعها عن التأقلم مع نتائج غير متوقّعة للعدوان، سواء في ما يتعلق بـ«حزب الله» أو بـ«التيار الوطني الحر». إن هذا التصلّب، مع ما يعنيه من دفاع مستميت عن احتكار السلطة، لا بل عن «تصعيد» هذا الاحتكار، هو المسؤول الأول عن المأزق الحالي.
إن معاملة المنتصرين وكأنهم مهزومون هي إنكار لموازين قوى وتعلّق وهمي بنسبة قوى كان يفترض أن توجدها الحرب الإسرائيلية. إن انعدام التطابق بين الواقع ووعي الواقع من جانب قوى الأكثرية هو الذي سبّب المعضلة الراهنة لكنه، أيضاً، سيجعل المخرج الوحيد من الوضع الحالي هو ذلك الناتج من تراجع الأكثرية.
غريب ألاّ تدرك النخبة المتنفّذة البديهية السياسية القائلة بأنه لا يمكنها أن تخرج منتصرة من هذه المعركة. لن يكون ممكناً أن تصمد طويلاً بحكومة عرجاء من هذا النوع. ولن يكون في وسعها أن ترفض طلب «الاتحاد الوطني» الذي يريده نصف اللبنانيين على الأقل. ولن تستطيع أن تقدّم أجوبة مقنعة على خطوات تصعيدية محتملة قد يلجأ إليها المعارضون.
لا جواب لدى السلطة على الدعوة إلى عصيان مدني، وإلى مقاطعة أجهزة الدولة، وإلى تعطيل الحياة العامة. ولا جواب لديها على استقالة محتملة من المجلس النيابي. تستطيع قوى الائتلاف الحاكم أن تردّد إلى ما شاء الله شعارها المفضّل «الشارع مقابل الشارع» أو «لن نردّ على الرصاصة بوردة»، وتستطيع أن تحذّر من شغب داهم... إلا أنها عاجزة عن التعاطي بجديّة مع أشكال اعتراضية، وعاجزة عن أن تحوّل باريس ــ 3 إلى بديل من المحكمة الدولية من أجل «قمع» المعترضين.
هل هناك من ينصح قادة هذه الأكثرية بأن الخسارة المحدودة فوراً خير من خسارة أكبر بعد أيام؟ هل هناك من يقنعهم بأن لبنان هو الرابح الأكبر من خسارتهم؟