نقولا ناصيف
أدخلت الأزمة الدستورية الناشئة عن استقالة الوزراء الشيعة الخمسة من حكومة الرئيس فؤاد السنيورة الانقسام الداخلي في بُعد موازٍ للتهديدات التي تتبادلها المعارضة والغالبية الحاكمة بالاحتكام إلى الشارع. وبمقدار ما يؤدي احتكام كهذا ــــــ إذا اصطدم شارع سياسي بآخر ـــــــ إلى انهيار السلطة، فإن توسّع السجال الدستوري أنشأ في الأيام الاخيرة ما يصحّ تسميته «حرب اللاشرعيات الدستورية». بعدما طعنت الغالبية النيابية بالشرعية الدستورية للولاية الممددة للرئيس إميل لحود، امتلكت المعارضة حجة تمكّنها راهناً من الطعن في الشرعية الدستورية لحكومة السنيورة وقد استقال منها وزراء طائفة برمّتها، الأمر الذي أخلّ بتوازن تمثيل الطوائف الثلاث الكبرى في السلطة التنفيذية تبعاً لقاعدة المثالثة من ضمن المناصفة. بذلك دُفِعت البلاد في منحىً خطير يتزامن مع مطالبة المعارضة بإجراء انتخابات نيابية مبكرة، هو أن طرفي النزاع يتبادلان طعوناً دستورية في مسألتين غير قابلتين لحل سهل وسريع ومقنع في الوقت الحاضر لكل منهما:
ـــــــ لا قوى 14 آذار في وسعها وحدها إسقاط رئيس الجمهورية بالقوة أو بالآلية الدستورية، على وفرة الدعم الخارجي الذي قدّمه لها المجتمع الدولي عبر تشكيكه في شرعية بقاء الرئيس اللبناني في منصبه واستمرار التمسّك بتنفيذ القرار 1559.
ـــــــ ولا المعارضة واثقة بأن نزولها إلى الشارع سيقود حكماً إلى إسقاط حكومة السنيورة بالقوة، ما لم يقرّر رئيسها خياراً كهذا على غرار ما فعل الرئيس عمر كرامي في شباط 2005، ولا هي قادرة كذلك على نزع الثقة عنها في مجلس النواب لافتقارها إلى النصاب القانوني لذلك.
على نحو كهذا، لم يعد السياسيون وحدهم في مأزق، بل أيضاً المؤسسات والصلاحيات الدستورية. وهو ما أظهرته نتائج أولى لما ترتّب على الأزمة الدستورية الحكومية الأخيرة:
1 ـــــــ لا يعدو وصف رئيس الحكومة استقالة الوزراء الشيعة الخمسة بأنهم متغيّبون، كونه محاولة لإيجاد كوة في مأزق دستوري معقّد لا يملك هو وحده حلّه: لا هو قادر على قبول استقالة الوزراء الخمسة من دون موافقة رئيس الجمهورية نظراً إلى أن قبول الاستقالة يوجب توقيعهما معاً مرسوماً بذلك، عملاً بالمادة 53 من الدستور، ولا هو قادر أيضاً على تعيين بدلاء عنهم نظراً إلى تطلّب ذلك موافقة رئيس الجمهورية أيضاً على وزراء بدلاء لا ينتمون إلى «حزب الله» وحركة «أمل». الأمر الذي يرفضه لحود.
لكن التعامل مع الوزراء المستقيلين على أنهم متغيّبون، إنكاراً لواقع أنهم خرجوا من السلطة التنفيذية وأخرجوا معهم منها الطائفة الشيعية، يضاعف المأزق ويرتّب سابقة دستورية خطيرة هي أن يملك رئيس الحكومة، وحده، حق تقرير مصير الوزراء المستقيلين، فلا يعدّهم كذلك لئلا يعترف بخلل فادح دستوري وميثاقي أصاب حكومته، من أجل إكساب هذه الحكومة شرعية دستورية مستمرة، قد باتت الآن عرضة للتشكيك والطعن. وهو بذلك يتشبّه بسابقة الرئيس الراحل رشيد كرامي عندما أحجم على أثر استقالة حكومته في 23 نيسان 1969 عن تأليف حكومة جديدة على رغم إعادة تكليفه بذلك، وأبقى أزمة الحكم مفتوحة حتى تمكّن من تأليف حكومة جديدة في 11 تشرين الثاني. وفي هاتين السابقتين، على اختلاف الأحكام التي ترعى الاختصاصات الدستورية لرئيس مجلس الوزراء بين مرحلة ما قبل اتفاق الطائف وما بعده، سمح كل من كرامي والسنيورة لنفسه بالاستنتساب في ممارسة صلاحياته الدستورية وهو في مواجهة أزمة سياسية، إما متجاهلاً رئيس الجمهورية أو منقلباً عليه.
وسواء كان السنيورة يريد قبول استقالة الوزراء الشيعة الخمسة أو يرفضها، فإن هؤلاء في أي حال ليسوا متغيّبين نظراً إلى أن للتغيّب أسبابه (بعذر أو من دون عذر)، ويعكس التغيّب في الغالب تعبيراً عن موقف سياسي رافض لموضوع يناقش أو هو في صدد التصويت عليه. وليست هذه حال الوزراء الخمسة الذين، باستقالتهم، لا يحتجّون على بند مُدرج في جدول الأعمال أو يتغيّبون عن تصويت ما، بل يعلنون خروجاً كاملاً ونهائياً من مؤسسة دستورية أصبحت خلواً من تمثيل طائفتهم فيها. وهم بذلك يكونون قد ذهبوا إلى أبعد من الاحتجاج الذي اقترن باعتكافهم عن جلسات مجلس الوزراء في 12 كانون الأول 2005 على أثر المناقشة المبدئية لتأليف محكمة دولية في اغتيال الرئيس الراحل رفيق الحريري. والسبب الذي قادهم إلى الاعتكاف سياسياً سبعة أسابيع، لم يكن هو الذي أعادهم إلى مشاركتهم في السلطة التنفيذية.
2 ــ باستخدامه صلاحياته الدستورية بالامتناع عن الموافقة على استقالة الوزراء الشيعة كما على تعيين بدائل منهم، يكون رئيس الجمهورية يساهم في إضعاف الشرعية الدستورية لحكومة السنيورة، وإن كانت لا تزال تمسك بنصاب ثلثي الأعضاء الذين كانت قد تألّفت منهم في 19 تموز 2005، وهو ما يمكّنها في ظاهر الأمر من استمرارها في عقد جلسات تصدر عنها قرارات ستكون قابلة للطعن السياسي والدستوري في آن. يساهم ذلك أيضاً، ليس في نقل الخلاف من بعد سياسي إلى آخر دستوري فحسب، بل أيضاً في بناء توازنات جديدة من خلال الصلاحيات الدستورية نفسها.
على أثر تصويت مجلس الوزراء الاثنين الفائت (13 تشرين الثاني)، بإجماع الحاضرين على مسودة المحكمة ذات الطابع الدولي، تجاوزت الحكومة الصلاحية المنصوص عليها في المادة 56 من الدستور التي تقضي بإحالة مقرراتها على رئيس الجمهورية للموافقة عليها أو التحفّظ. ومع معرفة السنيورة بأن فاعلية هذه الصلاحية مقيّدة ولا تمكّن الرئيس من تعطيل قرار ــــــ كقرار التصويت على المحكمة الدولية في حال رفضه ــــــ إذا أصرّ عليه مجلس الوزراء ولكونه يصدر ضمن مهلة محددة بدون الحاجة إلى إصداره من رئيس الجمهورية. وتالياً أرسلت الحكومة المسودة إلى الأمم المتحدة، متجاهلة صلاحية رئيس الجمهورية وإن تعمّد التغيّب عن هذه الجلسة. وهي إشارة صريحة إلى انتقال المواجهة داخل السلطة التنفيذية إلى قضم متبادل للصلاحيات. على نحو كهذا يسترجع اللبنانيون ما كانوا قد شهدوه لسنوات خلت عن تفكّك السلطة التنفيذية على أثر «انتفاضة 15 كانون الثاني» 1986، عندما انقسمت حكومة الرئيس رشيد كرامي على نفسها وتعذّرت اجتماعاتها من غير أن يطعن أي من الفريقين، الرئيس أمين الجميل والوزراء المؤيدون له وكرامي والوزراء حلفاء سوريا آنذاك، أحدهما في شرعية الآخر ودستورية موقعه. وُلِدت إذذاك فكرة المراسيم الجوّالة. على أن الأزمة الدستورية، اليوم، تبدو أكثر تعقيداً: رئيس للجمهورية لا يعترف بشرعية الحكومة، ورئيس الحكومة ووزراء الغالبية لا يعترفون بشرعية لحود، غالبية تحكم في السلطة التنفيذية باسم ثلاث طوائف فيما الرابعة خارج الحكم تستعد للاحتكام إلى الشارع.
فهل تبدو البلاد اليوم، أيضاً، تبعاً للتهديدات المتبادلة بالاحتكام إلى الشارع على أبواب «6 شباط» يقودها الفريق نفسه ضدّ الهدف نفسه، وهو تقويض سلطة مركزية وضع هذا الفريق نفسه في موقع العاصي لها.