جان عزيز
معقدة مسألة انعكاس «الوضع الاميركي» الجديد، على العلاقة اللبنانية ـــ السورية، وبالتالي على كل من طرفيها، تقول الأوساط الاميركية القريبة من الكونغرس. ذلك أن فيها أبعاداً متشعبة، منها الداخلي في كل من لبنان وسوريا، ومنها اللبناني ـــ السوري في بعده العربي، ومنها أخيراً ما يرتبط بالتوجه الاميركي الشامل. وتروح الأوساط تفكّك شبكة قراءتها وتوقعها: في الداخل اللبناني، المؤكّد ان واشنطن لا تزال معجبة بفؤاد السنيورة. وهذا الإعجاب يطاول حزبي الكونغرس وأطياف الإدارة كلها، حيال أداء السنيورة في الفترة الماضية، خصوصاً إبّان « الحرب الأخيرة». ومن ينسى تقديم هذا الإطراء مباشرة، يجد نفسه مضطراً إلى استذكاره، حين يوسّع أفقه، فيقارن بين رؤساء الحكومة في بيروت وبغداد ورام الله...
هكذا، تعتقد الأوساط نفسها أن بقاء السنيورة في موقعه، سيتحول بسهولة جزءاً من سياسة «الاستقرار» الأميركية الجديدة في المنطقة. ولكن ماذا لو تبيّن أن ثمة تعارضاً بين هذين «البقاء» «والاستقرار»؟ تجيب الأوساط أنها لا تستبعد أن تسمع الاكثرية، بدءاً من أمس القريب، نصائح أميركية بضرورة «توسيع قاعدة شرعيتها»، وعدم اعتماد نهج «إقصائي» في الحكم.
هل تشمل هذه النصائح «حزب الله»؟ طبعاً تؤكد الاوساط، لا بل تذهب أبعد لترجّح أن تعود واشنطن قريباً الى خطاب حزبللاهي مماثل لما اعتمده جورج بوش في آذار 2005، لجهة التأكيد على أن «لا مشكلة للولايات المتحدة مع «حزب الله» كحزب سياسي له نشاطات سياسية واجتماعية وتنموية، وأن المشكلة الوحيدة تكمن في مسألة السلاح».
وتتحوّل الأوساط الاميركية عند هذه النقطة فجأة، من دور المجيب الى دور السائل، متلمسة الأفكار والمقترحات الممكنة لمقاربة هذه المسألة بالذات. وتنتهي الى اعتقادها بأن واشنطن ستكون مستعدة لسماع كل الآراء المحتملة، من «انضمام» ما الى الجيش اللبناني، وصولاً الى «اهتمام» ما بتعديل مشاركة الجماعات اللبنانية في النظام والسلطة الدستوريين. بما يسمح بمقاربة قضية سلاح «الحزب».، قبل أن تسارع الى وضع الضوابط المتصورة لهذه الأفكار: المهم ألاّ تؤدي خيارات الاندماج في القوى الرسمية المسلحة، الى سيطرة أحادية للعناصر «الحزبية» على الامن الحدودي، وألّا تؤدي خيارات تكييف النظام اللبناني الى خلل جديد، أو توازن غير ثابت. قبل أن تختم الأوساط نفسها بأن بريطانيا قد تلعب دوراً تمهيدياً في هذه السياسة، خصوصاً بعد رحيل طوني بلير، كون لندن من العواصم الأوروبية الحليفة لواشنطن، والقليلة التي حفظت في ادارتها الخارجية «مكتباً» للتعاطي مع «الحزب السياسي» في «حزب الله».
أما عن سوريا فتعتقد الأوساط الأميركية أن المسألة أكثر دقة وحساسية. فدمشق باتت تدرك أن نظامها لم يعد مستهدفاً. هذا ما نقله اليها الأمير بندر قبل نحو 10 أشهر. وهي تدرك أكثر حاجة واشنطن اليها في الملف العراقي تحديداً، كيف سينظر المسؤولون السوريون والاميركيون بعضهم إلى بعض عند أوان المقاربة الجديدة؟
تعتقد الأوساط أن أميركا ستلوح لسوريا بورقة السلام الشامل، في مقابل التجاوب الكامل مع التوجه الأميركي، على «الحدودين» العراقية واللبنانية. الّا أنها تسارع الى الاعتقاد بأن دمشق لن تستجيب على الأرجح في الموضوع اللبناني. وهي ستلمّح لواشنطن بأن معادلة «التسوية في مقابل استقرار العراق» ممكنة، أما لبنان فهي قادرة على «استرجاعه» من دون منّة واشنطن. وأياً كانت مواقف الأخيرة منه، خصوصاً اذا كان المقصود، استرجاعاً سياسياً ونفوذياً للبنان، لا الاسترجاع العسكري بالطبع. وتتابع الأوساط الأميركية ترجيحها أن تتغاضى واشنطن عن «فهم» هذه الرسائل، وأن تكمل سياسة احتوائها الجديد، من دون تجاوب مع سعي دمشق الى «عودتها» اللبنانية، لكن أيضاً من دون أي قدرة فعلية حاسمة لصدّها.
في هذه الحال، لا تستبعد هذه الأوساط أن يسعى بشار الاسد الى تكرار مذهب والده، في اعتماد سياسة «حافة الهاوية» لبنانياً، عبر القضم التدريجي والتلمّس الاجتياحي للخط الأحمر الوهمي الموضوع. يبقى السؤال حول مدى إجادته هذا الدور وفرص نجاحه، في ظل عوامل كثيرة متغيرة، لبنانياً وعربياً ودولياً. ذلك أن الانسحاب السوري من لبنان أخرج الى العلن في بيروت طائفتين سياديتين جديدتين، هما السنة والدروز، كما أن التطورات السعودية أخرجت الى صف القيادة الثاني جيلاً كاملاً من الأمراء السعوديين الشباب المعادين للنظام السوري، فيما روسيا بوتين لا تزال بعيدة عن روسيا اندروبوف التي حضنت العودة السورية، بعد الانسحاب الأول عامي 82 و 83.
لكن واشنطن، تخلص الأوساط نفسها، ستراهن جدياً على «جزرة» التسوية السلميّة. لتكشف في هذا السياق أن صيغة «تذكارية» لمؤتمر مدريد ستعقد في العاصمة الإسبانية لمناسبة مرور 15 سنة على «مؤتمر السلام» الشهير. وتؤكد أن الموعد تأجل الى 16 كانون الثاني المقبل، لضمان تأكيد حضور المدعوين، وبينهم رجالات مدريد ـــ واحد: بوش الأب، غورباتشيف، بيريز، إضافة الى مدعوّين نروجيين. وعلم أن المدعو السوري الوحيد سيكون وليد المعلم، في مقابل عدد من المدعوين اللبنانيين أبرزهم فارس بويز.
صحيح أن المناسبة، في حال انعقادها، ستكون تذكارية، لكنها ستؤشر الى نيات غربية جديدة في إعادة إحياء «عملية مدريد»، قبل أن يرحل بلير وشيراك، وقبل أن يقترب الاستحقاق الرئاسي اللبناني، في ظل خريف الإدارة الأميركية. وماذا اذا لم ينفع ذلك كله مع سوريا؟
تصمت الأوساط نفسها، كأن الصمت مخرج او مهرب او مدفن للأخطاء، او اتهام لمرتكبيها في بيروت.