وفيق قانصوه
مواقفـه صادمة، حتى تكـاد تشـعر بأن لا تابـوات في ما يريـد مفتـي جبـل لبـنان على مـدى 44 سـنة الشـيخ محمـد علي الجـوزو قولـه، غير عـابئ بما تثيـره مواقفـه من غبـار طائفي ومذهبي. هنـا محاولـة، تتـوخى الدقـة، للإضـاءة على هـذه الشـخصية، تنطلـق من تصـريح له في أيلـول الفـائت ان «لا عصمـة لا للشـيخ ولا للسـيد في البـلاد الديموقراطيـة، وما دام يعمـل في السـياسة فهـو يخـطئ»

«نقول لبوش: سترى أمامك مئات الآلاف من الاستشهاديين، ونحن على استعداد لأن نموت (...) لن تنجحوا في قتل روح المقاومة فينا».
ليس هذا قولا للسيد حسن نصرالله، بل ورد في مقابلة أجرتها مجلة «الشراع» (29/10/2001) مع مفتي جبل لبنان الشيخ محمد علي الجوزو الذي أثارت مواقفه الأخيرة جدلاً واسعاً. فمن هو هذا الشيخ الثمانيني المشاكس، الذي نقلت قيادات دينية عن مفتي الجمهورية محمد رشيد قباني اثر زيارته أخيراً شاكية اليه الجوزو، قوله: «الرجل غير مقدور عليه»؟!
لطالما أثارت مواقف الجوزو انتقادات، حتى داخل الطائفة السنية، بدليل اللافتة التي رفعت في مسقطه برجا أخيراً وفيها: «بئس العلماء على أبواب الأمراء». وهو عرف بـ «صراحة» في مواقفه قلّما سبقه أحد الى الجهر بها، تارة ضد الشيعة، وأخرى ضد الموارنة والمسيحيين، وثالثة ضد الدروز.
ولد في أسرة متوسطة الحال في محلة الطريق الجديدة في بيروت التي قصدها والده، بائع الأقمشة، من قرية برجا. في الحرب العالمية الثانية عادت العائلة الى بلدتها، فيما آثر البقاء في العاصمة. اسمه محمد، لكنه ربط بين اسمَي محمد وعلي اعتزازاً بوالده علي. وهو يفسّر معنى «الجوزو» بالقول ان جدّه كان ضابطاً في الجيش التركي «وعندما كان مع جنوده في مهمة وصلوا الى نهر، فأمرهم بأن جوزوه فجازوه، فسمي الجوزو» (القبس الكويتية، 28/12/2001).
درس في المقاصد، وعمل في شبابه في مطبعة للكتب، ثم في قسم التصحيح في جريدة «نداء الوطن». أصدر مع أحد أترابه مجلة أثارت غضب والده (؟)، فغادر الى مصر حيث كتب في صحف عدة منها مجلة «الصباح». ويأخذ عليه خصومه انه عمل في مجلات فنية قبل أن يتجه الى دراسة الشرع.
عام 1952 التحق بالأزهر ليكمل تعليمه الثانوي والجامعي ويتخصص في كلية الشريعة، ومذذاك تربطه بالقاهرة علاقات وثيقة، يغمز خصومه من قناتها. اذ يزورها في شكل دائم، ويتردد أن له أملاكاً في مصر من بينها مصنع لتعليب الأسماك في الاسكندرية. وكان آخر زياراته الى القاهرة مع عائلته قبل عدوان تموز بأسبوع. وهو متأهل من مآثر حامد حنفي (مصرية)، وله منها خمسة أولاد: أمل، علي، حامد، أسامة، محمد هاني (عالم دين). عيّن مفتياً لجبل لبنان عام 1962 اثر عودته من مصر. عام 1978 نال الدكتوراه من جامعة السوربون عن رسالته «مفهوم العقل والقلب في القرآن والسنة».
منذ عودته الى لبنان، انغمس الجوزو في العمل السياسي، خصوصاً في منطقة الشوف التي كانت تشهد صراعاً بين قطبيها كميل شمعون وكمال جنبلاط. عام 1964 استخدم نفوذه الديني وموقعه بين سنّة اقليم الخروب لدعم جنبلاط في الانتخابات التي خاضها المكتب الثاني دعماً للأخير، ففازت لائحة الزعيم الاشتراكي وسقط زعيم النمور في عرينه الشوفي سقوطاً مدوياً. تلقى الجوزو تهديدات بسبب دوره ذاك، فعمل المكتب الثاني (النظام الأمني بمصطلح اليوم) على تأمين حرس خاص له. والمفارقة، أن الأمر نفسه حصل أخيراً عندما زادت وزارة الداخلية عناصر حراسته، بالتزامن مع ارتفاع حدّة مواقفه!
لم يدم الود مع جنبلاط طويلاً، اذ ان المفتي، وهو خطيب بارع، ما لبث ان اختلف مع الزعيم الاشتراكي أواخر الستينيات احتجاجاً على سماح الأخير، وكان وزيراً للداخلية، بنشر كتاب «نقد الفكر الديني» لصادق جلال العظم.
مع اندلاع العمل الفلسطيني المسلح، عمل على جمع التبرعات لمصلحة حركة «فتح»، وهو جاهر دائماً بأنه بين أول من قاتلوا في صفوف المقاومة الفلسطينية. توثقت علاقاته بالقادة الفلسطينيين، خصوصاً الراحل ياسر عرفات. وأدت مواقفه ابان حرب المخيمات الى ابعاده عن لبنان عام 1987 لمدة سنتين ونصف سنة قبل وساطة مع دمشق للسماح له بالعودة. وبلغ تعلقه بالقضية الفلسطينية حد التساؤل: «لماذا يقولون ان توطين الفلسطينيين جريمة؟ أنا مع التوطين» (الديار 19/9/1997).
التقى الامام الخميني في باريس، وزار طهران مرة يتيمة بعد انتصار الثورة مع وفد من رجال الدين، وألقى كلمة أشاد فيها بالجمهورية الوليدة. الا أن كلمته أثارت حفيظة القيادة السعودية التي أوقفت المساعدات عنه، وهو ما زال، الى يومنا هذا، يكفّر عن «خطيئته» تلك بالهجوم الدائم على ايران «التي تشتري الناس والمشايخ والعمائم» (صحف 2/11/2006). وتربطه علاقات وثيقة ببعض الأوساط السعودية التي تموّل مجلة «فجر الاسلام» التي يصدرها، والتي تفيد معلومات أنه يطبع منها بضع عشرات من النسخ فقط تذهب بمعظمها الى المملكة!
بدأت علاقته مع الرئيس الشهيد رفيق الحريري مع بداية النشاط الخيري للأخير في لبنان في النصف الأول من الثمانينيات. كان الحريري، قبل خوضه معترك السياسة، ينشط في تقديم التبرعات للأعمال الخيرية. قصده الشيخ في الرياض معترضاً على قيامه ببناء مجمع جامعي في منطقة كفرفالوس (المسيحية)، وطالباً منه نقلها الى اقليم الخروب. فوعده الحريري بمساعدته على بناء مهنية في المنطقة.
خاض الجوزو، في حياته السياسية، سجالات كانت تسبّب احراجاً للمؤسسة الرسمية السنية ممثلة بدار الفتوى ورئاسة الوزراء. وهو أكثر مفتي المناطق نشاطاً وأرفعهم صوتاً وأشدهم جرأة على الخوض في مناكفات طائفية ومذهبية، الى درجة أن زملاءه من مفتي المناطق «يستضيفونه» لقول ما يريدون قوله، كما حصل عندما خطب في احتفال لدار الفتوى في مقام النبي عزير في عنجر، مذكّراً «الضيوف» الأرمن بأن «ليس من حقهم ان يمدوا أيديهم الى أرضنا» (النهار، 30/4/2001)، وذلك على خلفية النزاع بينهم وبين دائرة الأوقاف حول ملكية أراض.
ضد «الهيمنة الجنبلاطية»

عام 1998، كان التأزم يسم علاقة الرئيس الحريري بالنائب وليد جنبلاط. يومها خاض الجوزو، بشراسة، مطلب الاستقلال الاداري لاقليم الخروب عن الشوف والحاقه بمدينة صيدا. وصف الحزب التقدمي الاشتراكي الطرح بأنه «تقسيمي يهدف الى إضعاف جنبلاط» (فؤاد سلمان للكفاح العربي، 27/7/1998). رد الجوزو بأن «لا قدسية لانسان، وتاريخ الاشتراكي ليس مشرفاً». واعتبر ان لدى جنبلاط «حساسية وراثية من كل الزعماء السنة، فأبوه لم يكن يهاجم الا رؤساء الوزراء»، متهماً اياه بـ «التطاول على العمائم» وبـ «الهيمنة في الاقليم واختيار نواب لا يعبّرون عن رأي أبنائه». اشتعلت حرب كلامية بينه وبين النواب الذين حاولوا إقصاءه من منصبه، متهمينه بالتحريض الطائفي. وكان علاء الدين ترو الذي زار الجوزو أخيراً ناقلاً «تحيات وليد بك»، شاجباً «الاصوات التي تحاول النيل من عمامة الشيخ الجوزو»، أحد هؤلاء. وقد نقل عنه الجوزو قوله، قبل أن يؤلف الحريري أولى حكوماته: «لرفيق الحريري أطماع سياسية، ومحرم على أي سياسي سني أن يمد يده الى الاقليم» (اللواء، 10/8/1998). وهو وصف في المقابلة نفسها ترو بأنه «عميل لجنبلاط» و«لم نجد منه الا عدم الوفاء». واتهم زعيم الحزب الاشتراكي بحرمان الاقليم من المشاريع «فالمياه لا تصل الا اذا تكرّم الشوف الاعلى... والمشاريع الوحيدة في المنطقة شخصية ومنها معمل الترابة العائد لجنبلاط، والذي يتضرر منه سكان المنطقة».
مع عودة المياه الى مجاريها في قناة العلاقات بين الحريري وجنبلاط، تخلى الجوزو عن مطلبه الأثير، وعادت علاقته مع الأخير الى طبيعتها، وتوثقت بعد خروج الجيش السوري. ويقول بعض العارفين ان لقاءات كثيرة تعقد بينهما للتنسيق، خصوصاً في ما يتعلق بالأوضاع في ساحل الاقليم، وتحديداً في منطقة الجية التي تضم تجمعاً شيعياً.
«الأحباش» والأوقاف

من «معارك» الجوزو الطاحنة تلك التي خاضها ضد «الأحباش»، فقال فيهم ما لم يقله مالك في الخمر، ووصل حد اتهامهم بالقتل، معتبراً أنهم «فرقة مضللة» و«حركة صهيونية لتفتيت السنة» (نداء الوطن، 12/10/1993)، و«يقفون الى جانب الخط الذي يعادي الأمة». كما أبدى «تفهمه» لقتل رئيس الجمعية الشيخ نزار الحلبي «لأن صاحب العقيدة لا يستطيع الا ان يدافع عن عقيدته... وهم (منفذو عملية الاغتيال) شباب اندفعوا دفاعاً عن دينهم» (الديار، 22/7/1996).
إلا أن أبرز «حروبه» كانت في الجية حيث أثارت كثيراً من الغبار الطائفي.
يسكن الجية، تاريخياً، المسيحيون. في القرن الثامن عشر لجأ اليها بعض شيعة بعلبك من آل الحاج (يتحدرون من آل حمادة) وأقاموا فيها. في ما بعد قصد البلدة بعض من أهالي القرى المجاورة من السنة، خصوصاً من آل الكجك والخطيب (برجا) وآل أبو صالح (بعاصير). تجاور أبناء الطائفتين لفترة طويلة وحصلت مصاهرات بينهم، وكان من الطبيعي في بيئة مسلمة اقامة مسجد ومقبرة لأموات المسلمين، وبالتالي أنشئت «لجنة وقف الطائفة الاسلامية في الجية»، وهي لجنة مختلطة (5 شيعة و3 سنة) تشرف على أملاك الأوقاف المؤلفة من مسجد ومقام النبي يونس وحسينية ومدرستين. وحتى أواخر التسعينات كان أبناء الطائفتين يصلون في المسجد الأثري الذي كان يخطب فيه شيخ سني ويؤم الصلاة فيه آخر شيعي.
بعد الاجتياح الاسرائيلي عام 1982، انتقل الجوزو الى الجية للاقامة فيها على رغم انه كان خطيب أحد مساجد منطقة الطريق الجديدة. كانت تلك الفترة تشهد صحوة اسلامية مع بداية بزوغ نجم المقاومة، فكان شبان البلدة يعقدون حلقات دينية في المسجد، ما أثار حفيظة الشيخ الذي طلب من لجنة الوقف اقفال المسجد في غير أوقات الصلاة. كانت تلك بداية الخلاف الذي تفاعل في ما بعد وأدى الى شق اللجنة الى اثنتين، سنية وشيعية، خصوصاً بعدما تبيّن ان الجوزو بدأ بالعمل على نقل ملكية اللجنة الى الأوقاف السنية عبر أمين السجل العقاري في بعبدا أمين شحادة (رقم التسجيل 2175 بتاريخ 26/7/2000)، واستقدم عمالاً باشروا في هدم مئذنة المسجد بحجة اعادة ترميمه. تأزم الموقف مع اعتصام عدد من الشبان داخل المسجد، فتدخلت القوى الأمنية، واختلط الحابل بالنابل قبل ان تحصل تدخلات سياسية انتهت بدعاوى متبادلة لا تزال عالقة أمام القضاء، فيما المسجد مقفل مذذاك.
التحوّل

التحوّل الكبير في خطاب الجوزو بدأ بعد خروج الجيش السوري. وهو برر ذلك بالقول ان «سوريا كانت تجبرنا على ان نقول كلاماً لا يمت الى الحقيقة»، (البلد، 2/5/2006)، علماً انه طالما شدد على استقلالية مواقفه وعدم خضوعه للتهديد («تعرضت دائماً لتهديدات، لكنني لا أحسب حساباً لها»، القبس، 28/7/2001).
بعد انتهاء «عهد الوصاية»، دخلت لهجة جديدة على خطابه من نوع «شبعنا شعارات عن العروبة، ونريد بناء لبنان الجديد» (صحف 23/10/2006)، وهو لبنان نفسه، على ما نزعم، الذي وصفه الرجل بأنه «صنيعة المستعمر... وعلينا مقاومة ما صنعه الاستعمار الغربي من نظم واقامة حكم اسلامي في لبنان وغيره» (الشراع،23/7/1984). كما أن الجوزو الذي تهكم أخيراً على الاستراتيجية الدفاعية التي يطرحها حزب الله «والتي أدت الى تدمير البلد» هو نفسه من طالب يوما بـ «استراتيجية (هجومية؟) لتحرير القدس من الاحتلال الصهيوني» (الشرق الأوسط، 24/7/2003)، مشدداً على انه «لا يمكن القبول باسرائيل في المنطقة العربية ولبنان على استعداد دائم للتضحية في سبيل تحرير فلسطين» (وكالة أنباء الشرق الأوسط المصرية، 19/4/2002). وليس معلوماً ما اذا كانت هذه المواقف قيلت تحت ضغط «عهد الوصاية» الذي لم يُعرف عنه اهتمامه باقامة حكم اسلامي أو حتى تحرير القدس!
بعد عدوان تموز أخذت مواقفه منحى أكثر حدة من حزب الله، فـ «خربت المقاومة البلد من أجل أسيرين»، على رغم انه «تنبأ» قبل أربع سنوات بأن «اميركا تريد استهداف لبنان لضرب مقاومته» (السياسة الكويتية، 22/10/2001)، معتبراً ان «حزب الله يقوم بدور بطولي»، وانه «في مقدم الأحزاب المستهدفة في منطقتنا» (الشراع، 29/10/2001). تماماً كما حذر من «الشرق الأوسط الجديد» قبل عشرة شهور بالتمام من تبشير كوندوليزا رايس به عندما تخوّف من «تعميم النموذج العراقي على لبنان وسوريا ومصر والسعودية في اطار الشرق الأوسط الجديد» (اللواء، 16 أيلول 2005).
أما «بلاد فارس» التي تتآمر على عروبة لبنان و«تعمل على تغذية الغرائز المذهبية والطائفية» (النهار، 9/10/2006)، فهي نفسها ايران، «دولة العلماء التي احتضنت المقاومة، وأثبتت انها أفضل بكثير من الدول العربية في تبني القتال ضد اسرائيل» (الديار 19/9/1997).
كما ان «النظام القاتل» في سوريا هو، على ما نعلم، النظام نفسه الذي جعل دمشق «مركزاً لكل الحركات الوطنية ومنبراً للمنظمات التحررية وملجأ للمجاهدين. والدولة الوحيدة في خندق حماية الامة من الخطر الصهيوني» (صحف، 18/4/2003).
تحول الجوزو أخيراً محجة لفريق 14 آذار السيادي، تأييداً لمواقفه «الوطنية». وكان آخرهم الزعيم المستقبلي لـ «النمور» كميل دوري شمعون، الذي لا ندري ما اذا كان قرأ يوما قول الرجل «ان أولى الناس بشكر سوريا هم الموارنة لأنها وقفت الى جانبهم عندما تخلى عنهم الجميع. وهذا ما يجب أن يتذكره دوري شمعون الذي يعرف من قتل أخاه ومن اعتدى على أسرته في الصفرا» (النهار، 1/8/ 2001)، أو قوله ان «الموارنة ليسوا لبنانيين أصيلين، وهم من أصل سوري» (الاسبوع العربي، 1984).
واللافت ان الجوزو الذي حذر من «الذين يقفون معنا اليوم بحجة انهم أصدقاؤنا وهم الذين زرعوا اسرائيل في قلب منطقتنا» (الديار 19/9/1997)، لم يعلق أبداً على الحرص الشديد الذي تبديه الولايات المتحدة على «الصداقة» مع حكومة الرئيس فؤاد السنيورة.
الا انه، وللانصاف، يكنّ عداء شديداً لأميركا الى درجة تبرير هجمات 11 أيلول، وهو القائل ان «الرجل الأرعن الذي يرأس أميركا مجرم وسفّاك دماء (...) ونريد قطع رأس الأفعى. الأفعى هي اسرائيل، ورأسها أميركا وبريطانيا العدوان اللذان علينا ان نواجههما مهما كانت التضحيات» (اللواء 7 /4/2003). وهو موقف اذا ما ترجم الى الفارسية يصبح محمد علي الجوزو مرادفاً لـ... محمود أحمدي نجاد!