جوزف سماحة
أطلقت ثلاث دول أوروبية «مبادرة» للتهدئة على المسار الفلسطيني ـــ الإسرائيلي. مضت ساعات قليلة. أطلقت إسرائيل النار على «المبادرة» فأسقطتها. واستمرت الحياة كأن شيئاً لم يكن. فقط المبادرات الأوروبية للتسوية هي بسوء المبادرات العربية الرسمية. يشترك الطرفان في انعدام الإرادة السياسية. يشتركان، بالأحرى، في «الاحترام» الشديد للإرادة السياسية الأميركية.
عند النظر في ما أعلنه ثاباتيرو وشيراك قد يصدم المرء بتواضع الاقتراحات: وقف إطلاق نار فوري (مطلب إسرائيلي)، تأليف حكومة وحدة وطنية يمكنها كسب الاعتراف الدولي (مطلب إسرائيلي)، تبادل السجناء بمن فيهم الأسيران في لبنان (قيد التفاوض)، محادثات بين محمود عباس وإيهود أولمرت (لا اعتراض من أحد وخاصة مع استبعاد «حماس»)، فريق مراقبة دولي إلى غزة للإشراف على وقف النار (هنا المشكلة، إسرائيل ترفض).
يُصدم المرء بتواضع الاقتراحات لكنه يصدم، أيضاً، بإدراك الأوروبيين «النظري» لحراجة الوضع. قد يكون رئيس الوزراء الإيطالي رومانو برودي خير معبّر عن ذلك بتصريحه معلناً انضمام بلاده إلى «المبادرة»: وصلت العذابات في المنطقة إلى مستوى لا يُحتمل. تشير هذه الكلمات، تحديداً، لا حصراً، إلى ما يجري في غزة وإلى ما شهدته بيت حانون أخيراً. وهي بمثابة تعزية للفلسطينيين الذين حاولوا الشكوى إلى مجلس الأمن فأسقط الفيتو الأميركي شكواهم وألقى جون بولتون كلمة يمكنها، وحدها، أن تبرّر الأعمال الهوجاء كلها وأن تجعل جبين ما يسمّى «الشرعية الدولية» ممرّغاً في الوحل.
اعترضت إسرائيل على «المبادرة» لأنها غير منسّقة معها. وكادت تسيبي ليفني تقول إنه «لو جرى التنسيق معنا لما طرحت المبادرة أصلاً». أي إن المطلوب، في الحالات كلها، عدم التدخّل وعدم الإشارة من بعيد أو قريب إلى أي تدويل، أو حديث عن مؤتمر دولي، أو إشارة إلى أهمية حماية شعب يُنكّل به يومياً. وعلّق مسؤول إسرائيلي كبير على السهولة في إصدار موقف بلاده مشيراً إلى أنه يعلم تماماً أن الأوروبيين غير مهتمّين أصلاً بفكرتهم. بدا كأنه يتحدث عن المشاريع العربية أو كأنه مطمئن إلى أن هناك، بين دول الاتحاد، من سيحوّل الفكرة إلى الأدراج.
قيل إن بريطانيا فوجئت بالاقتراح الثلاثي. لكن في الإمكان التأكيد أن هذا الاقتراح يستند إلى سيل من التصريحات الأخيرة لطوني بلير والقائلة كلها إن المدخل الفلسطيني لا مفرّ منه للإطلالة على مشاكل الشرق الأوسط كلها بدءاً بالعراق وانتهاءً بالإرهاب. لكن الفرق بين كل من ثاباتيرو ــ شيراك ــ برودي وبلير أن الأوائل يريدون ممارسة قدر من الضغط على الإدارة الأميركية وعلى إسرائيل فيما الأخير لا يطمح إلى أكثر من إقناع هذه الإدارة ويرى فرصة التقدم مؤاتية لأن «دولاً عربية معتدلة تريد إحداث تقدم». لم يكن ينقصه إلا الزعم أن هذه الدول كانت العقبة في وجه السلام. لا يستطيع زعم ذلك لكنه يراهن على الرغبة الأميركية في ضم هذا الدور إلى محور الحرب على التطرّف عبر التلويح لها بأن أفق التسوية مفتوح.
رأى الأوروبيون المبادرون أن تطورات في المنطقة قد تسمح لهم بالتعبير عمّا يدور في رؤوسهم. فالثلاثة يقودون بلداناً شاركت بفاعلية في تعزيز القوات الدولية في جنوب لبنان وأرسلت آلاف الجنود. ولقد أرفق ذلك بتلميح إلى أنه جواز مرور للتدخل في قضايا أخرى. والثلاثة يعتقدون أن نتائج الانتخابات النصفية يمكنها أن تدفع الإدارة الأميركية إلى قدر من التواضع. والثلاثة يلاحظون أن أصواتاً متزايدة بدأت ترتفع لتركّز على وجوب المعالجات الإجمالية لأزمات المنطقة وفي القلب منها القضية الفلسطينية. ويدرك الثلاثة أيضاً أن إيهود أولمرت لا يملك فكرة يطرحها وأن بوش يمر في مرحلة ارتباك...
إلا أن هذه الاعتبارات كلها لا تبدو كافية من أجل أن يقبل الحليفان الأميركي والإسرائيلي بإنشاء الحد الأدنى من مظلة حماية للشعب الفلسطيني. حكومتا الاحتلال في فلسطين والعراق تديران الوضع مباشرة. أما القوات الدولية فعملها يقتصر على المساعدة حيث يفشل الاحتلال، كما في لبنان مثلاً.